أوّل الكلام آخره:
- ستشكل القضية الأفغانية واحدة من أحد أهم تحديات السياسة الخارجية لإدارة بايدن وهاريس.
- إن الخيارات المتاحة الجيدة أمام الولايات المتحدة قليلة في أفغانستان، ولا يبدو أن السيناريو الأفضل بالنسبة لواشنطن قابل للتحقّق.
- تبنّى العديدون داخل مجتمع الأمن القومي الأمريكي فكرة «الانسحاب المسؤول»، على أن الفكرة تبقى من غير تعريف دقيق.
- تدرك طالبان نقاط الضعف في الولايات المتحدة ويمكنها ببساطة أن تترقب خروجها من أفغانستان كما ظلت تفعل على مدى عقدين.
إن القضية الأفغانية ستشكل إحدى أهم تحديات السياسة الخارجية التي سترثها إدارة بايدن وهاريس. وفي السابق، فضل الرئيس بايدن حلولا لا ضجيج فيها، بخلاف ما كان الجنرال ديفيد بترايوس يفضّله مثلا، فالأخير كان يفضل اعتماد استراتيجية مكافحة التمرد وهذا يعني مشاركة قوات أكبر وعلى نحو شامل. أما بايدن فقد كان واحدا من أكثر المؤيدين لاعتماد إستراتيجية مكافحة الإرهاب، وهذا يعني عددا أقل من القوات، ودورا أبرز لقوات العمليات الخاصة وأجهزة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. ولكن الصراع القائم حول هاتين الاستراتيجيتين، على الرغم من أهميته خلال رئاسة أوباما مما أدى إلى زيادة القوات عام 2009، أصبح اليوم أقل أهمية. ففي عام 2021، تضغط الولايات المتحدة من أجل التوصل إلى اتفاق بين الحكومة الأفغانية وطالبان، وتبحث عن تموضع يبقيها قوية ومؤثرة من غير أن يعرقل ذلك محادثات السلام الجارية، ومن غير أن تترك فراغا في السلطة يمكن أن تملأه الجماعات الإرهابية العابرة للحدود مثل القاعدة.
إن الخيارات الجيدة للولايات المتحدة في أفغانستان محدودة. ولا يبدو أن السيناريو الأفضل لواشنطن قابل للتحقق. وسيتعين على إدارة بايدن إقناع طالبان بقبول تمديد انسحاب القوات الأمريكية إلى ما بعد الموعد المتفق عليه في 1 أيار / مايو، وتحقيق انخفاض مقبول في مستوى العنف الحالي، وتسهيل اتفاق دائم لتقاسم السلطة بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. وحتى لو تحقق ذلك، بعد انسحاب القوات الأمريكية في المستقبل، فعلى طالبان أن تحترم تعهداتها بقطع علاقاتها مع القاعدة. ويرى العديد من محللي مكافحة الإرهاب أنه من المستبعد جدا أن تقطع طالبان علاقاتها مع تنظيم القاعدة، الذي يعد واحدا من عدة جماعات إرهابية نشطة في المنطقة، والتي تستضيف أيضا شبكة حقاني والحركة الإسلامية لأوزبكستان، وتنظيم ولاية خراسان التابع لداعش كما ويحتفظ مسلحون من بعض المنظمات بصلات مع جماعات مثل جماعة لشكر طيبة وجماعة حركة طالبان في باكستان، خلف خط دوراند مباشرة.
وحتى لو انفصلت حركة طالبان عن تنظيم القاعدة، على الرغم من صعوبة هذا الأمر، فإن أفغانستان ستظل تواجه تهديدا من تنظيم ولاية خراسان التابع لتنظيم داعش والمتشددين الذين لا يوافقون على مجريات عملية السلام. وبينما عانى تنظيم داعش من نكسات في محافظتي نانغارهار وكونار، على التوالي، فإن مقاتليه ما زالوا قادرين على شن هجمات كبيرة، كتلك التي شنت في قلب كابول وأجزاء أخرى من أفغانستان. وقد شملت الهجمات الأخيرة البارزة العام الماضي اقتحام جناح للولادة في كابول في أيار / مايو 2020، والاعتداء على سجن جلال آباد في آب / أغسطس 2020، وهجوما على جامعة كابول في تشرين الثاني / نوفمبر 2020. وتذكرنا الحملة الطائفية التي تشنها الجماعة باستمرار بالحملة التي شنها أبو مصعب الزرقاوي والقاعدة في العراق خلال منتصف العقد الأول من القرن العشرين. وعلى الرغم من أن تنظيم داعش أصغر حجما حاليا بالمقارنة مع الشبكات الإرهابية الأكثر رسوخا في المنطقة، إلا أنه قد يسعى إلى إفساد محادثات السلام الجارية بين حكومة أفغانستان وطالبان.
ولا تزال الحكومة الأفغانية وطالبان على خلاف حول شكل الحكومة الأفغانية في حال التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة. وكانت الأصوات البارزة داخل مجتمع الأمن القومي الأمريكي تضغط من أجل «الانسحاب المسؤول». ولكن ذلك الموقف، كما جادل لوريل ميلر مؤخرا في مجلة فورين أفيرز، يتجنب بشكل أساسي اتخاذ موقف حقيقي وهو لا يكاد يعدو أن يكون غير «مفهوم مرن مريح يحمل الوعد بإنهاء «الحروب التي لا تنتهي» مع الاستمرار في عمليات مكافحة الإرهاب». وهو يتناسى أن واشنطن ليست وحدها على الساحة، فاللاعبون الإقليميون مثل الصين وإيران وباكستان والهند وروسيا لديهم جميعا خططهم الخاصة المتعلقة بأفغانستان، مع أولويات وأهداف مختلفة، ولكن أغلبها يرغب في أن يرى انسحابا للقوات الأمريكية. وفي آسيا الوسطى، تهيمن روسيا والصين على الأمن الإقليمي والتعاون في مكافحة الإرهاب، مع شركاء متعددين آخرين أقل قدرة على المشاركة بشكل مجد. ومن المسلم به على نطاق واسع أن باكستان قد دعمت حركة طالبان من خلال جهاز المخابرات الباكستانية (ISI)، ومن المرجح أن تزيد دعمها لطالبان لتعزيز نفوذها بعد أي اتفاق سلام محتمل. وإذا تدهورت العلاقات الصينية الهندية، فيمكن عندها للجماعات الإرهابية أن تستغل الاضطرابات في جنوب آسيا ووسطها.
وقد غاب عن الكثير من المناقشات التي دارت مؤخرا بشأن أفغانستان حقيقة أنه ما لم ينظر إلى الرئيس أشرف غني على أنه صوت سياسي شرعي فمن الصعب أن تتاح الفرصة لتحقيق الاستقرار الدائم. ومن شأن الاندفاع المصمم من الولايات المتحدة للخروج أن يضعف موقف غني ويعزز موقف منافسيه السياسيين. ولم تخف وطأة العنف في أفغانستان خلال المفاوضات السياسية. فقد واصلت حركة طالبان من جانبها شن هجمات على قوات الأمن الأفغانية ومن شبه المؤكد أنها مسؤولة عن موجة من الاغتيالات ضد الصحفيين والعاملين في المنظمات غير الحكومية والناشطين في مجال حقوق الإنسان. ومن الناحية العسكرية، استفادت حركة طالبان من إطلاق سراح 5000 من المسلحين المسجونين عن طريق التفاوض. وبما أن الولايات المتحدة أقل نشاطا بكثير في التصدي للمتمردين، فقد أظهرت حركة طالبان قدرا أكبر من القدرات الهجومية من خلال نشر قوات أكبر في المدن وعلى طول الطرق الرئيسة. وفي حال انسحبت الولايات المتحدة تماما وعادت أفغانستان إلى الحرب الأهلية، فستحتاج واشنطن إلى إيجاد طريقة للعمل بشكل وثيق مع دول المنطقة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، مع الاحتفاظ أيضا بالقدرة على شن ضربات من قواعد خارج البلاد. وعلاوة على ذلك، سيكون من المهم إيجاد طرق لحماية المكتسبات المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات المدنية، نظرا إلى أنها كانت عنصرا قويا من عناصر الخطاب الأمريكي الذي سوغ هذا الحضور الكبير في المنطقة. وسيؤدي ترك الشركاء في المجتمع المدني والجماعات النسائية عرضة للانتقام من طالبان إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة في المنطقة.
ومن الجدير ذكره أن الدعم الشعبي في الولايات المتحدة لاستمرار الحضور العسكري في أفغانستان بدأ يتناقص منذ سنوات. وحتى اليوم، فقدت الولايات المتحدة 2400 جندي في القتال، ووفقا لبعض التقديرات أنفقت أكثر من تريليوني دولار في شن الحرب. وتدرك حركة طالبان قلة الخيارات المتاحة أمام فريق إدارة بايدن، وقد تلجأ إلى انتظار خروج الولايات المتحدة كما فعلت على امتداد عقدين مرددة مقولتها: «لديكم الساعات ولكن الوقت لنا».