أوّل الكلام آخره:
عندما كان الأمريكيّون يفكرون بالاستبداد السياسيّ وأنظمته حيث يهدّد القادة الأقوياء المتظاهرين بالقوة العسكرية، ويفرضون حظر التجول لمنع المواطنين من التجمع، ويتعرض الصحفيون للمضايقة والترهيب، فإن صور مدينة القاهرة كانت هي التي تتداعى إلى أذهانهم لا صور مينيابوليس.
قد تبدو الانتقادات الموجهة من بلدان مثل الصين التي سجنت أكثر من مليون نسمة من مواطنيها الإيغور في معسكرات الاعتقال انتقادات خاوية، ولكن عندما لا تحير الولايات المتحدة جوابا غير أن تقول «إن الدول الأخرى فعلت ما هو أسوأ» تكون قد خسرت النقاش قبل أن يبدأ.
تضافرت عوامل متعدّدة، من بينها انتشار وباء كورونا وتعاطي الولايات المتحدة مع هذا الوباء والأزمة الاقتصاديّة والاحتجاجات الحالية، لتسريع المنحنى الهبوطي لمكانة الولايات المتحدة العالمية، في وقت يشعر فيه جزء كبير من العالم بالحاجة الماسة إلى قيادة موثوقة ومسؤولة.
لم يعد من المقبول الاستمرار في تجاهل مظاهر القمع والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي التي أدت إلى موجة الاحتجاجات العالمية التي شهدها عام 2019، بل لعله لم يعد أمرا ممكنا، ولا سيّما أن الولايات المتحدة، مع موقعها في قيادة العالم، قد انضمّت اليوم إلى نادي الدول التي تشهد اضطرابات مدنية خطيرة.
على مدى سنوات، شاهد الأمريكيون عن بعد حركات الاحتجاج العالميّة، من «الثورات الملونة» التي اجتاحت بلدان الاتحاد السوفياتي السابق في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى الربيع العربي الذي هيمن على الأخبار الرئيسة بدءا من عام 2011. ومنذ صيف 2019، وحتى تاريخ اليوم من عام 2020، خرج المتظاهرون والمحتجون إلى الشوارع للمطالبة بالعدالة والإصلاح والمساءلة في السودان والجزائر وتشيلي وهونغ كونغ ولبنان والعديد من البلدان الأخرى من شمال أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية وخارجها. وعندما كان الأمريكيّون يفكرون بالاستبداد السياسيّ وأنظمته حيث يهدّد القادة الأقوياء المتظاهرين بالقوة العسكرية، ويفرضون حظر التجول لمنع المواطنين من التجمع، ويتعرض الصحفيون للمضايقة والترهيب، فإن صور مدينة القاهرة كانت هي التي تتداعى إلى أذهانهم لا صور مينيابوليس. ويبدو أن الأمر قد تغيّر.
وتعكس الاحتجاجات في الولايات المتحدة تدهورا متزايدا لأخلاقيات السلطة. وتتعرض إدارة ترامب خلال هذه الأحداث إلى انتقادات الأنظمة الاستبدادية نفسها التي ما فتئت الولايات المتحدة تسعى لمحاسبتها على سجلاتها المخجلة في قضايا حقوق الإنسان، من بكين إلى طهران. نعم، قد تبدو الانتقادات الموجهة من بلدان مثل الصين التي سجنت أكثر من مليون نسمة من مواطنيها الإيغور في معسكرات الاعتقال انتقادات خاوية، ولكن عندما لا تحير الولايات المتحدة جوابا غير أن تقول «إن الدول الأخرى فعلت ما هو أسوأ» تكون قد خسرت النقاش قبل أن يبدأ. وفي فترة ما بعد 11 أيلول / سبتمبر، شكلت بعض المحطّات والمشاهد والتسريبات، كحوادث سجن أبو غريب وغوانتانامو، ضربات قاسية للقوة الناعمة الأمريكية، ولكن بشكل عام، ظلّ كثير من الناس حول العالم ينظرون إلى المؤسسات الأمريكية بعين الثقة معتقدين أن الأحداث المذكورة ما هي إلا أخطاء أو زلات لن تلبث المؤسسات الأمريكية أن تقوّمها، وأن التزام الولايات المتحدة بمجتمع مدني قوي وتمثيلي هو الذي سيتغلب في نهاية المطاف. ولكن مع أكثر من 100,000 قتيل في الولايات المتحدة بسبب تفشي وباء كورونا وسوء التعامل معه ، وحوالى 40 مليون عاطل عن العمل، وأعمال الشغب التي تعصف بالمدن الأمريكية الكبرى ضد الظلم العنصري ووحشية الشرطة، ظهرت الولايات المتحدة بأضعف صورة لها منذ زمن بعيد. وعليه، فقد انهارت ثقة الأمريكيين في حكومتهم، وسيستغرق إصلاح الضرر الذي لحق بالنسيج الاجتماعي لهذه الأمة سنوات.
وقد تضافرت عوامل متعدّدة، من بينها انتشار وباء كورونا وتعاطي الولايات المتحدة مع هذا الوباء والأزمة الاقتصاديّة والاحتجاجات الحالية، لتسريع المنحنى الهبوطي لمكانة الولايات المتحدة العالمية، في وقت يشعر فيه جزء كبير من العالم بالحاجة الماسة إلى قيادة موثوقة ومسؤولة. كما أن انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، في خضم ما يمكن أن نطلق عليه أزمة صحية عالمية، أدى إلى خسارتها مركزا مهما في مؤسسة متعددة الأطراف، الأمر الذي مهد الطريق أمام الصين وغيرها من البلدان لملء الفراغ الّذي أحدثه غياب القيادة الأمريكية. ويرى المواطنون والصحفيون الذين شهدوا انتفاضات مناهضة للاستبداد والظلم في الدول المضطهدة أوجه تشابه بين تجاربهم والاحتجاجات التي تمر بها الولايات المتحدة. ولا شكّ أن المماثلة قد تكون مجحفة بحق الولايات المتّحدة أو غير ملائمة، ولا سيّما إذا تعلّق الأمر بالديكتاتورية الصريحة وحرية الصحافة والسياقات الثقافية، ولكن الطريقة التي استجاب بها القادة والشرطة وقوات الأمن الأمريكية لا تبدو غريبة على من تابع الاحتجاجات العالمية في العقدين الأخيرين، ولا سيّما هذا التمسّك بسياسة القبضة الحديدية لقمع الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، حتى ولو كانت التجارب قد أثبتت، المرة بعد المرّة، أنها تؤتي عكس ثمارها المرجوّة.
ولا تنحصر ظواهر الظلم المتزايد وتهميش الأقليات الدينية والعرقية على البلدان النامية وغير الغربية فحسب، بل من الممكن أن نشهدها جليّة في احتجاجات الولايات المتحدة، والتي اتّخذت من حدث مقتل فلويد نافذة أطلت منها على عقود من إهمال الأقليات، وتفشي العنصرية، ووحشية الشرطة ضد الأمريكيين من أصول إفريقية. ولم يعد من المقبول الاستمرار في تجاهل مظاهر القمع والتفاوت الاجتماعي والاقتصادي التي أدت إلى موجة الاحتجاجات العالمية التي شهدها عام 2019، بل لعله لم يعد أمرا ممكنا، ولا سيّما أن الولايات المتحدة، مع موقعها في قيادة العالم، قد انضمّت اليوم إلى نادي الدول التي تشهد اضطرابات مدنية خطيرة في ظل أنظمة استبدادية مثل مصر والسودان. ومن اللازم على الدوام حماية المواطنين عند ممارسة حقوقهم في التعبير عن آرائهم في حكوماتهم وعدالتها، وفي الدفاع عن حقوق الإنسان وفي الاعتراض على سياسات حكوماتهم.