أوّل الكلام آخره:
- إن الانسحاب العسكري الإيراني الظاهري في سوريا يعكس على الأرجح اعتقاد طهران بأن نظام الرئيس بشار الأسد بات في وضع آمن.
- ومن مصلحة كل من روسيا ونظام الأسد الحد من نفوذ إيران في سوريا في فترة ما بعد الصراع.
- يعتقد مسؤولو الدفاع الإسرائيليون أن إيران عمدت إلى نقل بعض وحداتها وعتادها من سوريا نتيجة لحملة القصف الإسرائيلية على المنشآت الدفاعية التي تسيطر عليها إيران في سوريا.
- تزعم إدارة ترامب أن إيران تعيد تموضعها في سوريا بسبب حملة «الضغط القصوى» الأمريكية ضد طهران.
قال قادة الدفاع الإسرائيليون وبعض المسؤولين الأمريكيين في بعض التصريحات والمقابلات الشهر الماضي، إنهم شهدوا ما يشي بـ«انسحاب تكتيكي» للقوات العسكرية الإيرانية من سوريا، وتفكيك إيران لبعض البنية التحتية للإنتاج العسكري التي أنشأتها في البلاد أو التخلي عنها. ومنذ تدخل إيران عام 2012 لمساعدة نظام الأسد في المعركة ضد الانتفاضة المسلحة التي عمّت مختلف أنحاء البلاد، نشرت عدة آلاف من ضباط فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي ووحدات من جيشها لتقديم المشورة والدعم لقوات الأسد البرية. كما سهلت إيران نشر عشرات الآلاف من مقاتلي حزب الله اللبناني في سوريا، ومقاتلين من عدة ميليشيات شيعية عراقية، وميليشيات شيعية أفغانية وباكستانية. وقد استخدمت إيران تدخلها في سوريا لتأمين طرق إمدادها إلى حزب الله وتطوير منشآت الإنتاج العسكرية لمساعدة حزب الله على تحديث دقة صواريخه التي تزوده بها إيران والتي تبلغ اليوم أكثر من 100,000 صاروخ منها صواريخ باليستية قصيرة المدى موجهة إلى إسرائيل. وترى إسرائيل أن التدخل الإيراني في سوريا يشكل تهديدا لأمنها، وقد عمدت مؤسسة الدفاع الإسرائيلية على نحو متكرّر إلى قصف ما زعمت أنه منشآت تسيطر عليها إيران في سوريا.
على أن نوايا إيران من الانسحاب العسكري التدريجي الظاهري وإعادة التموضع في سوريا لا تزال غير واضحة بعد، ومن المؤكد أن للمسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين مصلحة في تصوير إعادة تموضع طهران بوصفه نتيجة لخياراتهم السياسية. ومن الممكن أن تكون إيران قد تخلت بالفعل عن بعض مرافق الإنتاج العسكري في سوريا ريثما يعاد نقلها إلى مناطق في سوريا أقل عرضة للقصف الإسرائيلي، ولكنّ هذا يعني أن «إنجازات» حملة القصف الإسرائيلية هي إنجازات مؤقتة أو غير كاملة. وفي أيار / مايو، قال كبير مساعدي وزير الخارجية الأمريكي لشؤون إيران، السفير بريان هوك، في مقابلة له إنه ينسب الانسحاب التدريجي الظاهري للعسكريين الإيرانيين والمدعومين من إيران إلى تأثير حملة «الضغط القصوى» التي تستند إلى العقوبات، والتي أضعفت الاقتصاد الإيراني. وقد قدم برلماني إيراني لإدارة ترامب خدمة جليلة بتصريحه أن جهود إيران لإنقاذ الأسد كلفت بلاده ما يعادل 30 مليار دولار، بما يشكّل عبئا ثقيلا على الاقتصاد الإيراني الذي تضرر من عقوبات الحملة. ومع ذلك، فقد بذلت إيران جهودا مكثفة في سوريا طيلة ما يقارب عقد من الزمان، وكانت تخضع على امتداد أغلب هذه الفترة لعقوبات أمريكية قاسية. وعليه فلا يمكن الركون إلى المزاعم التي تذهب إلى أن إعادة التموضع اليوم مردّها العقوبات أو حالة الاقتصاد الإيراني، فقد يكون منشأ الأمر هو حسابات طهران لمصالحها وأولوياتها. ويمكن أن ينسب سبب تراجع الجهود الإيرانية مؤقتا في سوريا إلى مواجهة وباء كورونا الذي ضرب إيران على نحو جعلها من البلاد الأكثر تضررا بين الدولة الإقليمية الأخرى، فتحتم على الحرس الثوري والوحدات العسكرية النظامية القيام بعمليات إغاثة في إيران نفسها.
وتبرز عوامل عديدة هامة تسهم في تفسير قرار طهران بإعادة التموضع. ولعلّ العامل الأول والأهم هو نجاح شراكة القادة الإيرانيين مع روسيا (التي تدخّلت بقوّتها الجويّة ابتداء من عام 2015) في إبقاء الأسد على كرسي السلطة. ومن شبه المؤكد أن النظام سيتمكّن من استعادة آخر جيوب للتمرّد في محافظة إدلب، حتى من دون مساعدة القوات الإيرانية والمدعومة من إيران. فإيران على هذا لا ترى خطرا في إعادة بعض مواردها العسكرية في سوريا إلى إيران أو نقلها إلى ساحات أخرى في المنطقة، فبقاء الأسد في السلطة يؤمّن خط إمداد إيران لحزب الله في لبنان، مما يسمح لإيران بالاستغناء اليوم عن المنشآت الدفاعية المنفصلة في سوريا.
ولا يمكن استبعاد أن يكون انسحاب إيران من سوريا راجعا إلى الضغط من شريكيها، أي من روسيا ونظام الأسد نفسه. وتشكل إيران لروسيا عقبة أمام الجهود الرامية إلى دفع الأسد إلى التوصل إلى تسوية سياسية مع المعارضة واجتذاب أموال إعادة الإعمار، وكل هذه العوامل ضرورية حتّى تتمكّن روسيا من تقليص مشاركتها في سوريا. ويظهر التردد جليا على العديد من الجهات المانحة المحتملة، وبخاصة دول الخليج الفارسي، في الاستثمار في إعادة بناء سوريا في حال استمرّ الحضور الإيراني في البلاد. أمّا نظام الأسد فإن شرعيته السياسية تتطلب إنهاء اعتماده على القوات البرية الخارجية التي زودته بها طهران.