أوّل الكلام آخره:
- أسفرت الانتخابات البرلمانية التي جرت في 15 أيار (مايو) في لبنان عن تغييرات مهمة في المشهد السياسي، حتى لو لم تفلح في إسقاط النظام السياسي الطائفي أو إعادة تشكيله.
- يبدو أن رسالة القوات اللبنانية، وهي فصيل مسيحي، بضرورة نزع سلاح حزب الله اللبناني، لقيت آذانا صاغية لدى شرائح واسعة من الناخبين.
- لم يتمكن حزب الله وحلفاؤه من نيل الأغلبية في المجلس المؤلف من 128 مقعدًا، فالمجلس الجديد أشبه بالفسيفساء، وما من طرف يمكنه اليوم ادعاء الأغلبية.
- سيكون لنتيجة الانتخابات آثار متتالية على السياسات الخارجية للخصمين الإقليميين الرئيسيين إيران والمملكة العربية السعودية، وكذلك على سياسات الولايات المتحدة تجاه لبنان.
في 15 أيار (مايو)، اختتم المواطنون اللبنانيون انتخاب 128 نائبا في البرلمان. كانت الانتخابات التي تضمنت يومين من تصويت اللبنانيين في الخارج مهمة، لأن المجلس النيابي المنتخب هو الذي ينتخب رئيس الجمهورية (والذي ينبغي أن يكون بحسب العرف المتفق عليه مسيحيا مارونيا). كما أن رئيس الوزراء (السني عرفا) ومجلس الوزراء ينبغي أن يحظيا بثقة البرلمان. أما رئيس المجلس النيابي نفسه فينبغي أن يكون شيعيا. ومنذ الانتخابات الأخيرة في 2018، شهد لبنان موجات من الاضطرابات الشعبية ضد الفساد الحكومي وانعدام المساءلة. ويُعزى الانفجار الكبير للمواد الكيميائية المخزنة في أحد عنابر مرفأ بيروت في عام 2020، والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص، إلى الإهمال الحكومي وعدم الكفاءة، لكن الجهود المبذولة لمحاسبة المسؤولين قد توقفت. ومنذ عام 2019، شهد الاقتصاد اللبناني والعملة اللبنانية حالة من السقوط الحر، كما أن البلاد تعاني من نقص حاد في الكهرباء والوقود. وقد تقدم العديد من المستقلين ذوي العقلية الإصلاحية بترشيحاتهم على أمل أن تحل انتخابات 2022 محل النظام السياسي الطائفي القائم على المحسوبية، وأن تأتي بإطار سياسي جديد يتميز بمساءلة الحكومة وصنع السياسات من أجل الصالح العام. وتشير النتائج النهائية إلى أن 15 مرشحًا على الأقل من المجتمع المدني والأحزاب المنشأة حديثًا قد فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد – وهو عدد غير كاف لإعادة تشكيل النظام اللبناني، لكنه كاف لتشكيل كتلة إصلاحية مهمة في البرلمان المقبل إذا ما اتحد هؤلاء المرشحون.
ويبدو أن التصويت قد أنتج بعض التحولات السياسية بين الكتل الرئيسية، مما قد يصب في مصلحة الولايات المتحدة وحلفائها داخل المنطقة وخارجها. وقد جرت الانتخابات في ظل عزوف تيار المستقبل ورئيسه سعد الحريري (الزعيم السني الأقوى) عن المشهد السياسي. وكان الحريري، المقرب من قيادة المملكة العربية السعودية، قد سوّغ انسحابه على أنه رد على الهيمنة السياسية لحزب الله المدعوم من إيران، والذي حصل أعضاؤه وحلفاؤه على 71 مقعدًا – وهي أغلبية واضحة – في المجلس الماضي. وقد انصاع كثير من أنصار الحريري لدعوته لمقاطعة انتخابات 15 أيار (مايو).
على أن الفراغ الذي خلفه عزوف الحريري ملأته القوات اللبنانية وهي فصيل مسيحي رئيسي على رأسه سمير جعجع. وجعل جعجع من نزع سلاح حزب الله شعارا لحملته الانتخابية. وكان الجناح العسكري لحزب الله هو الميليشيا الوحيدة التي سُمح لها بالاحتفاظ بالسلاح بعد اتفاق الطائف عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية التي امتدت بين عامي 1975 و1990 على أساس أن حزب الله، الذي تقع قاعدته السياسية في جنوب لبنان، كان يقاوم الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن ميليشيا القوات اللبنانية كانت متورطة على نطاق واسع في الصراع الأهلي، إلا أن جعجع ورفاقه أعادوا منذ ذلك الحين تشكيل أنفسهم قادة سياسيين خاضعين للمساءلة كما أن بقاءهم على هامش السلطة جعلهم أقل عرضة للتورط في الفضائح التي لطخت قادة لبنانيين آخرين. وقد تمكنت القوات اللبنانية وحلفاؤها بدعم ضمني من المملكة العربية السعودية ورسالة مقنعة على ما يبدو للبنانيين الذين يعارضون النفوذ الإيراني والميليشيات من الفوز بـ 20 مقعدًا – مقارنة بـ 15 مقعدًا في تصويت 2018. وهذا يجعل موقع كتلة التيار الوطني الحر (جزب الرئيس ميشال عون) المتحالفة مع حزب الله بوصفها أكبر كتلة مسيحية في البرلمان في خطر. وستحسم التحالفات في الأيام المقبلة الكتلة المسيحية الأكبر في المجلس النيابي الجديد. وفي كل الأحوال، لم يتمكن حزب الله وحلفاؤه من نيل الأغلبية في المجلس المؤلف من 128 مقعدًا، فالمجلس الجديد أشبه بالفسيفساء، وما من طرف يمكنه اليوم ادعاء الأغلبية.
إن تداعيات الانتخابات بالنسبة للعديد من الجهات الفاعلة الرئيسية في المنطقة كبيرة. سيقلص دور حزب الله باعتباره الحزب الذي يدير المشهد السياسي. ويمكن للنتائج أن تدفع المملكة العربية السعودية وحليفتها الرئيسية، الإمارات العربية المتحدة، إلى زيادة تدفقات المساعدة التي يمكن أن تساعد في استقرار قيمة العملة اللبنانية وتخفيف النقص الحاد في الطاقة. على أنه ما من مؤشر عن أي استعداد لدى قادة حزب الله للانصياع لإصرار جعجع على تفكيك الجناح المسلح للحزب – مما قد يمهد الطريق للصراع في مرحلة ما. أما إيران – وهي راعية حزب الله – فلا يظهر أنها ستعمد إلى تقليص الدعم المالي أو العسكري للحزب، فقد كانت مهارات حزب الله محورية في الجهود الإيرانية لاستعراض قوتها على جبهات عديدة في المنطقة، بما في ذلك في سوريا لمساعدة الحليف العربي الرئيسي لإيران، الرئيس السوري بشار الأسد، وفي اليمن لمساعدة جماعة الحوثي ضد القوات العسكرية السعودية والإماراتية، وفي المعارك ضد القوات الاسرائيلية في عدة مناسبات.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الانتكاسة السياسية لحزب الله قد تفتح فرصًا لزيادة المساعدة المالية، وتسريع المشاريع لتخفيف أزمة الطاقة في لبنان، وتوفير الأسلحة لقوات الحكومة اللبنانية. وقد أدى التأثير القوي لحزب الله في السياسة اللبنانية في السنوات الأخيرة إلى إبطاء المساعدة الأمريكية والدولية للبنان أو إعاقتها، لأن حزب الله تصنفه الولايات المتحدة على أنه منظمة إرهابية أجنبية. ويؤدي هذا التصنيف إلى فرض عقوبات أمريكية كبيرة على أي شركة أو كيان يجري معاملات مع حزب الله أو مسؤوليه. وقد يتقدم أحد المشاريع الرئيسية لإرسال الغاز الطبيعي من الحقول المصرية البحرية إلى لبنان عبر خط أنابيب غاز سوري بسرعة أكبر في ظل خسارة الحزب للأغلبية في البرلمان المقبل. ومن المرجح أن تزيد فرنسا، قوة الانتداب السابقة التي حثت المسؤولين اللبنانيين على تبني إصلاحات سياسية واقتصادية كبيرة، من دعمها للبنان أيضًا. ومع ذلك، يبدو أن إعادة التشكيل الأساسية للنظام السياسي في لبنان التي يأملها المرشحون المستقلون وأنصارهم قد تؤجل مرة أخرى.