أوّل الكلام آخره:
- شكلت التحولات في سياسة ألمانيا الخارجية والأمنية ما يشبه الثورة، فقد تخلت ألمانيا عن مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، والتزمت بإنفاق 100 مليار يورو إضافية على الدفاع، وبإرسال أسلحة إلى أوكرانيا.
- غير أن اعتماد ألمانيا على النفط والغاز الروسي (فـ 55٪ من وارداتها من الغاز من روسيا) سيجعل من المستحيل على برلين قطع الإمدادات تمامًا.
- بسبب تاريخ ألمانيا وماضيها النازي، لطالما كانت برلين حذرة من تبني سياسة خارجية عسكرية ومن المشاركة في المهام القتالية.
- كان المستشار الألماني أولاف شولتز واضحًا في بيان هذا التحول، معلنًا أن تصرفات بوتين أدت إلى «واقع جديد» يدفع نحو التزام متجدد بأخذ دور قيادي في الأمن الأوروبي.
شكلت التحولات بين عشية وضحاها في سياسة ألمانيا الخارجية والأمنية ما يشبه الثورة، فقد تخلت ألمانيا عن مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2، والتزمت بإنفاق 100 مليار يورو إضافية على الدفاع، وبإرسال أسلحة إلى أوكرانيا. وفي حين أن الضغط الداخلي على قادة ألمانيا لتبني سياسة خارجية أكثر حزما كان يتزايد منذ عقود، فقد تطلب الأمر غزو روسيا لأوكرانيا لفتح الباب على مصراعيه لمثل هذا التحول. والمفارقة هنا أنه ما كان من أحد يستطيع توحيد الناتو والغرب على النحو الذي استطاع أن يحققه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وكانت ألمانيا قد تعرضت لموجة من التهكم والسخرية عندما أرسلت خوذات إلى كييف أثناء غزو الروس، ولكنها ما لبثت أن عكست مسارها تمامًا، وتحت إشراف المستشار الجديد أولاف شولتز، وبدأت بإرسال مجموعة من الأسلحة المتطورة إلى أوكرانيا، بما في ذلك صواريخ ستينغر والأسلحة المضادة للدبابات، كما تعهدت أيضًا بشراء طائرات مقاتلة جديدة من طراز F-35 من الولايات المتحدة. وفضلا عن ذلك، التزم شولتز بزيادة الإنفاق الدفاعي السنوي إلى ما لا يقل عن 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي – وهو هدف للإنفاق الدفاعي لدول الناتو – بعدما كانت النسبة تبلغ 1.5٪ فقط. كما رفعت ألمانيا الحظر الذي كانت تفرضه على دول أخرى، بما في ذلك هولندا وإستونيا، وتمنعها بموجبه من إرسال أسلحة ألمانية الصنع إلى الجيش الأوكراني.
ولكن اعتماد ألمانيا بشدة على النفط والغاز الروسي (فـ 55٪ من وارداتها من الغاز تأتي من روسيا) سيجعل من المستحيل على برلين قطع الإمدادات تمامًا، كما تعهدت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة للتو. وأكد شولتز ذلك مؤخرًا، مشيرًا إلى أن ألمانيا ترفض فرض حظر أوروبي مقترح على واردات النفط الروسية. غير أن شولتز أعلن أيضا أن ألمانيا ستسرع في بناء محطتين للغاز الطبيعي المسال، في محاولة لفطم البلاد عن الطاقة الروسية بطريقة مستدامة. وقد تظل ألمانيا تتعرض لانتقادات لأنها لم تفعل ما يكفي، ولكن من المهم أن ندرك أن ما حدث الأسبوع الماضي كان بمثابة تحول جذري في السياسة الخارجية للبلاد، وستظهر أصداء مثل هذا التحول من واشنطن إلى بروكسل وما وراءها، وقد يلهم هذا التحول الدول الأوروبية الأخرى لتحذو حذو ألمانيا.
وكانت ألمانيا تحاول على مدى العقود الثلاثة الماضية – بنجاح في بعض الأحيان، ومن دون كبير نجاح في أحيان أخرى – تحقيق التوازن بين الأمن الغربي والعلاقة الاقتصادية المستمرة مع روسيا. وفضل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (وهو من يسار الوسط) تبني وجهة نظر متسامحة مع موسكو، حتى عندما كانت عدوانية بوتين تجعل ذلك صعبًا. ونظرًا لتاريخ ألمانيا وماضيها النازي، لطالما كانت برلين حذرة من الظهور وكأنها تتبنى سياسة خارجية عسكرية مفرطة. ولكن في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، انتقد العديد من المسؤولين الغربيين ألمانيا، وحثوا برلين على إنفاق المزيد على الدفاع وتولي دور قيادي صريح داخل الناتو. وحتى الإصلاح الأخير، فشلت ألمانيا باستمرار في إنفاق 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، على الرغم من أن هذا المعيار حددته الدول الأعضاء في الناتو هدفا لها. وقد كانت هذه النقطة تحديدا موضع نقاش دائم للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي لم يكن يفوت قطّ أي فرصة لانتقاد الناتو، بل إنه كان وفقًا لبعض التقارير يخطط لمحاولة سحب الولايات المتحدة من الحلف إذا انتخب لولاية ثانية.
وبينما احتفل الكثيرون في ألمانيا والغرب بقرع ناقوس الموت لسياسة الأوستبوليتيك، وهي سياسة ألمانيا المتمثلة في الانخراط مع روسيا تجاريا ودبلوماسيا، يتساءل آخرون عما إذا كانت السياسة الخارجية الجديدة ستستمر، أو إذا ما كانت ألمانيا ستتراجع عنها بعد حين إذا ما هدأت الجبهة الأوكرانية. ولكن شولتز كان واضحًا في بيان خلفية هذا التحول السريع، معلنًا أن تصرفات بوتين أدت إلى «واقع جديد» دفع إلى الحاجة إلى دور قيادي جديد في الحفاظ على الأمن الأوروبي. ويبدو أن برلين قد تصالحت مع نفسها بعد طول انتظار، وأدركت أن عليها أن تعمل من أجل مصلحتها الذاتية وليس تحت ضغط الحلفاء كالولايات المتحدة فحسب. على أن التوقيت مثير للاهتمام، خاصة وأن ألمانيا تعيد بناء سياساتها مع قيادة شولتز الجديدة بعد سبعة عشر عامًا من الإشراف الثابت والحذر لأنجيلا ميركل. وتخطط ألمانيا لاستثمار مبالغ كبيرة في المعدات العسكرية بما في ذلك الطائرات المقاتلة والدبابات والغواصات والمروحيات والذخيرة، ولكن أيضًا في الدفاع عن الأمن السيبراني وتجهيزات الحرب الحديثة، بما في ذلك أجهزة الاستشعار والرادارات.