أوّل الكلام آخره:
– في 11 آذار / مارس، ألقى الرئيس بايدن خطابا وطنيا أكد فيه على ضرورة الاستمرار في توخي الحذر على الرغم من التقدم الكبير المحرز في محاربة وباء كورونا.
– توزّع الولايات المتحدة أكثر من 2.3 مليون طعم يوميا، مع تزايد مطّرد في عدد اللقاحات المتوفرة، ومع ذلك فإن بعض الجهات تمكنت من استغلال الشكوك والقلق بشأن اللقاحات.
– تشير التقارير إلى شن حملات تضليل مكثفة داخل الولايات المتحدة وخارجها، بعضها يضطلع به سياسيون محليون وبعضها يقوم عليه الخصوم التقليديون مثل روسيا.
– لا تكاد أي قضية من القضايا العالمية اليوم تحظى بإجماع تام، فالقضايا الكبرى محاطة بغابة من الشكوك المفتعلة، مما يؤدي إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية واضطراب الأمن.
كان العام الماضي، من آذار / مارس 2020 إلى 2021، من أخطر الأعوام التي مرت على تاريخ الولايات المتحدة. وتشير الحصيلة التراكمية الصادرة عن جامعة جونز هوبكنز إلى أن 535,176 أمريكيا ماتوا العام الماضي من الكورونا بينما أصيب نحو 29.5 مليون بالعدوى. إن التكاليف الشخصية والاقتصادية والاجتماعية للوباء الذي لا يزال مستمرا وصلت إلى حد يفوق الوصف، وما زالت المجتمعات والمدن والبلدان تكافح لفهم حجم الخسائر وتداعيات ما بعد الوباء (هذا إذا تمكّنّا من الوصول إلى هذه المرحلة). ومع ذلك، وعلى الرغم من حصول أكثر من 2.3 مليون شخص على الطعم يوميا في الولايات المتحدة، فإن بعض الجهات ما زالت تستغل الشكوك والقلق بشأن اللقاحات. فمنذ البداية، عمدت بعض الجهات المحلية والأجنبية إلى الإضرار بالمساعي الأمريكية للتصدي للوباء. وتشير التقارير إلى تكثيف حملات التضليل داخل الولايات المتحدة وخارجها، والتي يروج لها بعض السياسيين المحليين فضلا عن الخصوم التقليديين مثل روسيا. واليوم، تعد الكمامة، وهي من أكثر الإجراءات المضادة فعالية من حيث التكلفة ومن أبسطها، إجراء مسيسا بشكل لا يمكن تفسيره، وحساسا، وشيطانيا في بعض الأماكن.
أدى رد الفعل الأمريكي الأولي، الذي شجع فيه العديد من السياسيين المحليين على عدم الاكتراث للعلم ورسموا مسؤولي الصحة العامة على أنهم متآمرون وخونة، إلى تكبد البلاد آلاف الأرواح. كما أدى وصف مسؤولي الصحة العامة بالخونة أو أنهم جزء من مؤامرة «معولمة» إلى توسيع الفجوة في الحياة السياسية والاجتماعية الأمريكية. وقد أصبحت العديد من القضايا في الولايات المتحدة مثيرة للانقسام بما يتجاوز النقاش السياسي المعقول، أو قابلة للاستغلال من بعض الشخصيات الاجتماعية والسياسية لجمع التبرعات أو حصد الدعم. إن لاعقلانية «الحقائق البديلة» هي الواقع الجديد في شريحة متزايدة من الحياة الأمريكية، مما يزيد من خطر استغلال بعض الجهات المحلية والدولية لهذا الوضع في المستقبل.
وبمناسبة انصرام عام كامل على بدء انتشار الوباء، وللحديث عن الخسائر الجماعية والفردية الضخمة فضلا عن الآمال المعقودة على برنامج التطعيم، فقد ألقى الرئيس بايدن خطابا في 11 آذار / مارس، حث الأمريكيين فيه على التفاؤل بشأن الأشهر المقبلة مع الالتزام أيضا بتدابير الصحة العامة. وقد أثر ارتفاع معدلات الإصابة من جديد وظهور الأنواع الجديدة للفيروس بالفعل في العديد من البلدان حيث كان المواطنون قد اعتقدوا أن عمليات الإغلاق أصبحت في عداد الماضي. كما شدد الرئيس بايدن على الوحدة طوال الخطاب الموجز واعترف بالمصيبة الكبرى ولم يسع للتقليل من حجم الخسائر الكارثية في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، فإن مثل هذا التذكير المباشر والموثوق بالتقدم المحرز وسط الحاجة إلى البقاء يقظين في الأشهر المقبلة لا يزال بنظر عدد متزايد من الأمريكيين جزءا من المؤامرة.
وفي ظل هذه الجهود المتعمدة لتعزيز الانقسام من داخل الولايات المتحدة، لا يتعين على الجهات الفاعلة الأجنبية أن تبذل الكثير من الجهود لمفاقمة هذه التوترات واتخاذها أساسا لمزيد من الانقسام والشكوك واضطراب الأمن. وفي الآونة الأخيرة، ذكر مركز المشاركة العالمي التابع لوزارة الخارجية الأمريكية أربعة منافذ إعلامية روسية محددة على أنها منافذ تضليل تستخدمها عدة وكالات استخبارات روسية. وكان لهذه المنافذ، حتى وقت قريب، تركيز محدد جدا على زرع الشك لا في فعالية اللقاح الذي صنعته شركة فايزر فحسب بل في سلامته أيضا، فضلا عن اللقاحات «الغربية» الأخرى. كما عززت دول مثل الصين والهند دبلوماسية «اللقاح» الخاص بها من خلال توفير اللقاحات والمساعدة الطبية للبلدان التي تكافح من أجل محاربة الوباء، مما زاد من قوتها الناعمة النسبية ونفوذها في الخطاب الصحي العالمي على حساب الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن الانخراط من جديد في منظمة الصحة العالمية وتحسين الاستجابة المحلية للولايات المتحدة قد يخففان من بعض الضرر. وقد سارعت بلدان أخرى إلى سد الثغرات التي خلفتها الولايات المتحدة، كما أن المزيد من الانقسام في الداخل سيخدم أيضا أغراض بعض الجهات الخارجية.
وينطوي الدافع وراء حملات التضليل هذه، التي تنتزع فيها بعض التفاصيل من سياقاتها أو نطاقها أو تروج فيها الأكاذيب الصريحة كالنظرية القائلة بأن اللقاحات جزء من مؤامرة بين بيل غيتس والدكتور أنطوني فاوتشي، على وجهين. أولا، لقد كذبت روسيا بشأن الحقائق الأساسية ثم هاجمت أولئك الذين كشفوا تلك الحقائق أو بثوها، من إسقاط الطائرة MH-17 عام 2014 إلى جرائم الحرب في سوريا إلى محاولات الاغتيال باستخدام عامل أعصاب لا تملكه وتستخدمه إلا روسيا حصرا. وتعمل حملة التضليل حول اللقاحات الغربية، في نظر الكرملين، على إرباك الجماهير المحلية والأجنبية، والهدف هو زرع الانقسام الداخلي في الديمقراطيات الغربية وإضعاف الدعم الشعبي للديمقراطية نفسها. وفي الوقت نفسه، يمكن الاستفادة من التقدم المحرز في الدول الأخرى بشأن اللقاحات والاستجابة للوباء لزرع المزيد من الشكوك حول الولايات المتحدة وتقليل نفوذها في الخارج. أما الدافع الثاني لحملة التضليل فهو اقتصادي بحت. فاللقاحات المختلفة المستخدمة اليوم تلبي طلبا متزايدا لا يمكن إشباعه. ومن دون شك، إن السباق الجديد بين البلدان لم يعد على السلاح (arms) بل على سواعد المواطنين (arms). ولا يؤمن التفوق في هذا السباق تعاظم القوة الناعمة فحسب بل له تداعيات اقتصادية هائلة أيضا، وهذا يذكرنا بأن القوة «الناعمة» و«الصلبة» غالبا ما تكون مترابطة جوهريا. إن زرع الشك حول المنتج «المنافس» أمر أسهل من خلق الثقة في المنتج الخاص. وإذا زدت على ذلك البعد القومي للقاح، فقد يتحول الأمر إلى لعنة تصيب الهدف الأصلي: وهو وجوب حصول عدد كاف من الناس على اللقاح الآمن في أقصر فترة زمنية من أجل إنقاذ الأرواح وسبل العيش. وللوباء تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية خارجية دائمة تتخطى الوصف لم تظهر بعد، ولكن أحد أكبر التهديدات التي يشكلها هو التماسك الاجتماعي والثقة في الديمقراطية والعمل الجماعي. ولا شك أن حملات التضليل ذات الصلة، المحلية والدولية على حد سواء، ستحمل تداعيات دائمة في تبديد ثقة الجمهور.