أوّل الكلام آخره:
- تشهد الصين والهند، وهما القوتان الآسيويتان العملاقتان والدولتان الأكثر سكّانا، توتّرا حدوديّا على واحد من أطول الحدود البرية المشتركة في العالم.
- لا يعد التنازع بين الصين والهند حول ترسيم حدودهما الإقليمية الأول من نوعه، ولكن ما يختلف هذه المرة هو الزخم الإعلاميّ المحيط بهذا النزاع عند الطرفين للسيطرة على سردية المعركة.
- يشير العديد من الاستراتيجيين العسكريين الصينيين إلى أن المواجهة الصينية الهندية الحالية ترتبط مباشرة بتموضع الهند في الصراع الأمريكي الصيني أكثر من ارتباطها بالنزاعات الحدودية القائمة.
- أطّرت وسائل الإعلام الوطنية الصينية النزاع الحاليّ في إطار التحريض الأمريكي للهند، الذي لولاه لما تبنّت الهند موقفا بهذا الصرامة إزاء ما تعدّه تعدّيا على حدودها.
على مدى الأسابيع القليلة الماضية، شهدت الصين والهند، وهما القوتان الآسيويتان العملاقتان والدولتان الأكثر سكانا، توتّرا حدوديا على الحدود المشتركة بينهما على جبال الهملايا. ورغم أن وزارة الخارجية الهندية قد أصدرت بيانا مؤخرا تعهدت فيه بحل النزاع بالطرق الدبلوماسية، فقد نشر بالتزامن مع ذلك مقال لضابط سابق رفيع المستوى في البحرية الهندية يقول فيه إن «حربا تبدأ بإطلاق النار» قد تنتهي إلى مسارعة أحد الطرفين إلى «استخدام السلاح النووي»، في أسوأ سيناريو يمكن العالم أن يتخيّله. كما نشرت صحيفة جلوبال تايمز، المملوكة للدولة الصينية، من جهتها مقطع فيديو موجّها للهند عن لواء جوي تابع لجيش التحرير الشعبي الصيني ينفذ مناورات في مناطق مرتفعة في رسالة لا تحتاج كثيرا من التأويل. وتختلف الصين والهند حول ما يسمى خط السيطرة الفعلية في أكثر من عشر مناطق حدوديّة في لاداخ وأروناشال براديش. ويرى أغبية المحللين أن الوضع الحالي هو استئناف لنزاع دوكلام عام 2017، عندما نشرت الهند قوات على الحدود بين بوتان والصين، في المنطقة الخاضعة للسيطرة الصينية. وقد زادت الصين من حضورها العسكري في وادي غلوان ومنطقة بحيرة باغونغ في منطقة لاداخ وعند ممر ناكولا بالقرب من الحدود بين بوتان والصين في ظلّ الأزمة الحالية. إن التواجه المتزامن في ثلاثة أماكن مختلفة على خط السيطرة الفعلية أبعد من أن يكون صدفة، فهذا التنسيق لا بدّ له من خطة استراتيجية تتطلب تخطيطا وتحضيرا لا يستهان به للتنفيذ.
وتجدر الإشارة إلى أن الصين والهند تتمتعان بتاريخ طويل من الاشتباكات حول خط السيطرة الفعلية، وهو الذي يشكل عمليا الحدود الفعلية بين البلدين منذ نهاية الحرب الصينية الهندية عام 1962. ولكن يكمن الاختلاف اليوم في أن كلا البلدين كثفا حملاتهما الإعلامية للسيطرة على سردية المعركة، معتمدين على كافة أنواع وسائل الإعلام والجماعات الموالية عبر الإنترنت لترويج نسختيهما عن الأحداث وتشويه صورة الطرف الآخر. ولكن هذه المعلومات المضللة وتقنية التزييف العميق ومقاطع الفيديو المعدلة قد تؤدي إلى مزيد من سوء الفهم والفوضى، وهذا قد يدفع إلى وقوع نزاعات مسلحة تتجاوز حدود المناورات. وكثيرا ما يخضع كل من الرئيس شي جين بينغ ونظيره الهندي ناريندرا مودي إلى المشاعر الشعبوية الوطنية، لصرف الانتباه عن القضايا الداخلية المتعلقة بالشغب، والاضطرابات الاقتصادية، وجائحة كورونا.
وقد علّقت وسائل الإعلام الرسمية الصينية على المواجهة الحدودية بين بكين ونيودلهي داعية جارتها في جنوب آسيا إلى تجنب الانحياز لطرف في النزاع الأمريكي الصيني القائم، وكان مفهوما من هذا النداء أن الانحياز إلى الولايات المتحدة في «الحرب الباردة الجديدة» سيلازمه كوارث كبرى تصيب الاقتصاد الهندي. ومن الأمور التي كشفت عنها المناوشات الحدودية أن العديد من الاستراتيجيين العسكريين الصينيين ينظرون إلى المواجهة الصينية الهندية الحالية على أنها مرتبطة مباشرة بتموضع الهند في الصراع الأمريكي الصيني أكثر من ارتباطها بالنزاعات الحدودية التاريخية التي وقعت على مر السنين. والأهم من ذلك، أنها تكرس الخطاب الصيني عن بدء حقبة «الحرب الباردة الجديدة» بين الولايات المتحدة والصين. وينطوي هذا التأكيد ضمنا على أن الصين قد وصلت إلى مصاف الدول العظمى وأنها تتنازع القطبية اليوم مع الولايات المتحدة. ولهذه السردية تداعيات مباشرة أخرى. فعلى الرغم من أن المواجهة الحالية بين الصين والهند قد تصل إلى تسوية من خلال الجهود الدبلوماسية، إلا أن مستقبل العلاقات الصينية الهندية، بحسب بكين، يستند إلى استعداد نيودلهي لتحييد علاقتها بالصين عن متطلبات تحالفها المتنامي مع الولايات المتحدة.
وتسعى «الثورة الثالثة» التي بدأها شي جين بينغ إلى تغيير شعار «أخف قوتك وانتظر وقتك» الذي كان معتمدا في عهد دنغ شياو بينغ. وبالنسبة لشي، يتعين على الصين أن تسعى بقوة لا لإظهار أنها قوة دولية صاعدة، بل لإظهار أنها قد باتت بالفعل في مصاف الدول العظمى. وعليه، فقد أطّرت وسائل الإعلام الوطنية الصينية النزاع الحاليّ في إطار التحريض الأمريكي للهند، الذي لولاه لما تبنّت الهند موقفا بهذا الصرامة إزاء ما تعدّه تعدّيا على حدودها. أما الهند، فمن المستبعد أن ترى في المواجهة الحدودية الراهنة منافسة جيوسياسية تشمل قوى عالمية أخرى. وفي حين تعدّ الولايات المتحدة الهند شريكا طبيعيا وحصنا ضد امتداد النفوذ الصيني في جميع أنحاء آسيا، تتوخى نيودلهي الحذر، إدراكا منها بأن مركز واشنطن في إطار النظام الدولي الليبرالي هو اليوم أضعف منه في أي وقت مضى.