أوّل الكلام آخره:
- بما أن نجاح السياسة الخارجية يبدأ من الداخل، فإن العجز عن التعامل مع التحديات الداخلية سيحدّ حتما من قدرة واشنطن على بسط نفوذها عالميا، مما يتيح لخصوم الولايات المتحدة فرصا لا حصر لها للاستفادة من الوضع الراهن.
- قام بعض كبار المسؤولين في الحكومة الأمريكية بزرع الشك، والترويج للتضليل، ونشر نظريات المؤامرة، مع الاستخفاف بالدراسات الموضوعية والتجارب العلمية.
- أدى عجز البلاد عن التعامل بكفاءة مع وباء كورونا وفقدان الرغبة في قيادة التحديات العالمية مثل قضية تغير المناخ إلى تراجع دور الولايات المتحدة على المسرح العالمي.
- مع عجز الولايات المتحدة عن تسوية قضاياها السياسية الداخلية، تتفاقم الأخطار المحدقة بالعالم.
على مدى العقد الماضي، أخذ الطابع القبلي يسيطر على السياسة الأمريكية على نحو متزايد، الأمر الذي ضاعف من تحديات الأمن القومي الذي كان يمر أصلا بصعوبات. واليوم، أدى هذا المناخ السياسي الاستقطابي إلى نقطة انقلاب خطيرة في الولايات المتحدة. وفي ظل التكاليف الباهظة والفرص الضائعة المرتبطة بـ «الحرب على الإرهاب» التي دامت عقدين من الزمن، فإن الولايات المتحدة تواجه حاليا تهديدا أكثر خبثا، وهو الخلل الوظيفي الداخلي، حيث تسهم المشاكل السياسية وعدم الكفاءة في العنف المجتمعي. وقد أثبتت الولايات المتحدة، بوصفها دولة، أنها غير راغبة في معالجة شاملة للخلل الداخلي المنتشر على نطاق واسع، إن لم نقل إنها عاجزة اليوم عن ذلك. وبما أن نجاح السياسة الخارجية يبدأ من الداخل، فإن العجز عن التعامل مع التحديات الداخلية سيحدّ حتما من قدرة واشنطن على بسط نفوذها عالميا، مما يتيح لخصوم الولايات المتحدة فرصا لا حصر لها للاستفادة من الوضع الراهن.
وسجل وباء كورونا في الولايات المتحدة حتى الآن وفاة ما يقارب 200 ألف وإصابة 6.5 مليون إنسان. وهدد انتشار هذا الوباء اقتصاد البلاد، وجعله عاجزا عن تحمل الصدمات المالية. وقد تفاقم هذا الأمر بسبب انعدام الثقة المتفشي لدرجة أن المواطنين الأمريكيين عجزوا عن التوصل إلى اتفاق على الحقائق الأساسية التي أوصلت البلاد إلى هذه المرحلة، أو على الحلول المحتملة لتخليص البلاد من هذا المستنقع. وقد كان هذا أمرا متعمدا من بعض كبار المسؤولين والشخصيات السياسية الذين زرعوا الشك، ونشروا المعلومات المضللة، وروجوا لنظريات المؤامرة، واستخفوا بالدراسات الموضوعية والتجارب العلمية. إن نظريات المؤامرة، التي ينشرها أنصار تنظيم كيو وغيرهم، على تهافتها المنطقي، تجد اليوم بين كبار المسؤولين من يروج لها. وقد حظيت نظرية «الدولة العميقة» بغطاء من الرئيس ترامب الذي رفض التنديد بـتنظيم كيو.
ومن المستبعد أن يسهم حدوث أي كارثة طبيعية أو حدث للأمن القومي في توحيد غالبية سكان الولايات المتحدة للعمل على تحقيق هدف مشترك بالنظر إلى حالة الاستقطاب الحالية. وبدلا من العمل التعاوني لمساعدة الأمريكيين بعضهم بعضا، يقوم كثير من الأمريكيين باللجوء إلى الانترنت وتبادل الميمات المهينة والتقليل من شأن بعضهم بعضا. ولقد أسهمت السياسات القائمة على الهوية والحروب الثقافية في انغلاق الأمة على نفسها. ومع استمرار الاضطرابات المجتمعية في الولايات المتحدة، لن تتمتع البلاد بالمرونة الكافية اللازمة للاستجابة للأزمات الخارجية الكثيرة. وتواجه واشنطن تحديات خطيرة على المستوى العالمي، فقد أدى التمدد الروسي إلى زعزعة استقرار أوروبا وأجزاء من الشرق الأوسط، في حين تحدى نهوض الصين النفوذ المتنامي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي الوقت نفسه، لا يزال تنظيم داعش قادرا على الاستفادة من حالات البؤس وسوء الحكم في سوريا والعراق لتعزيز معتقداته المتطرفة. ووفقا لمركز بيو للأبحاث، وصلت الآراء المؤيدة للولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها بين شعوب فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وأستراليا وكندا واليابان. وقد أدى عجز البلاد عن التعامل بكفاءة مع وباء كورونا وعدم الرغبة في قيادة التحديات العالمية مثل قضية تغير المناخ إلى تراجع دور الولايات المتحدة على المسرح العالمي. وتظهر الصين وروسيا وتركيا وإيران حرصا بالغا للتدخل وملء هذا الفراغ.
وقد تضافرت الاضطرابات الداخلية والخطابات السياسية الحادة لتشكل العاصفة المثالية قبل سبعة أسابيع من الانتخابات. هذا مع توالي التحذيرات العامة بشأن الأضرار التي لا تزال الولايات المتحدة تلحقها بنفسها. ومع ذلك، شجع العديد من المسؤولين الفوضى في خطاباتهم. وقد نشر مسؤول كبير في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية دعوات حرفية للعنف الجماعي بعد الانتخابات، كما اتهم العلماء الذين يعملون مع وزارة الصحة والخدمات الإنسانية بـنشر الفتنة. وكثيرا ما يعيد الرئيس نشر تغريدات مؤامرات تنظيم كيو وحتى الجهات الفاعلة الأجنبية التي تنشر الأكاذيب المتعمدة والمعلومات المضللة. وقد استفزت الجهات الفاعلة من مختلف الأطياف السياسية اليسارية واليمينية وكذلك الليبرالية والمحافظة الأطراف الأخرى في ما يرقى إلى منافسة «يحصل الفائز فيها على كل شيء» سيكون موعدها في تشرين الثاني / نوفمبر. ومع عجز الولايات المتحدة عن تسوية قضاياها السياسية الداخلية، تتفاقم الأخطار المحدقة بالعالم.