أوّل الكلام آخره:
- في حين تنفذ جميع البلدان عمليات استخباراتية لتعزيز مصالحها الوطنية، تتعدى روسيا في عملياتها الحدود التقليدية.
- تقدم تفاصيل محاولة اغتيال الناشط الروسي المعارض أليكسي نافالني رؤية فريدة حول كيفية عمل وكالات الاستخبارات الروسية.
- من خلال استخدام مستحضر الأعصاب نوفينشوك لتسميم المعارضين داخل البلاد وخارجها، أثبتت موسكو أنها إذا أرادت إرسال رسالة واضحة فإنها قد لا تكترث كثيرا للمحاذير الأمنية ولا للرأي العام.
- تظهر تصرفات روسيا مدى من الجرأة قد يصل حدّ الوقاحة، الأمر الذي يحمل تداعيات مباشرة على مكافحة التجسس بالنسبة للولايات المتحدة.
إن الكشف عن أن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) كان قد حاول اغتيال الناشط المعارض أليكسي نافالني في آب / أغسطس 2020 باستخدام مستحضر الأعصاب نوفينشوك يسلط الضوء على أسئلة كثيرة حول اختيار الكرملين لاستخدام هذه المستحضرات العصبية القاتلة، على الرغم من المحاذير الأمنية. وقد كشفت محاولة الاغتيال الفاشلة لسيرغي ويوليا سكريبال في مدينة سالزبوري في المملكة المتحدة، في آذار / مارس 2018، أن روسيا تعتمد مادة نوفيتشوك أداة للاغتيال. وقد صرحت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بأن تسميم أي شخص باستخدام مستحضر عصبي هو بمثابة استخدام سلاح كيميائي، وهو على هذا ممّا يحظره القانون الدولي. وقد أثار تسمم نافالني، وهو ناقد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شكوكا واضحة حول دور أجهزة الاستخبارات الروسية مثل FSB ومديرية الاستخبارات الرئيسية (GRU) في هذه العملية. إن استخدام مادة نوفيتشوك للقتل هو وسيلة أكثر تعقيدا من الأساليب الأخرى الأكثر استخداما في روسيا، حيث يموت المنشقون والصحفيون أغلبية الوقت جراء «سقوطهم من النوافذ». ولكن استعداد الدولة لإدخال الموت البطيء والمؤلم باستخدام مثل هذا المستحضر العصبي يهدف إلى إرسال رسالة واضحة إلى الآخرين الذين يجرؤون على التفكير في تحدي بوتين وقبضته على السلطة. ونتيجة لذلك، أصبحت مادة نوفيتشوك اليوم مرادفا لمحاولات الاغتيال التي تقرها الدولة الروسية، وهي طريقة من طرق القضاء على المنافسين السياسيين المتصورين عندما يريد الكرملين إرسال رسالة واضحة لا لبس فيها.
وقد فشلت محاولة القضاء على نافالني بفضل التدخل السريع للطبيب والطيار. وخلال الشهر الماضي، وبعد العمل مع منصتي CNN و Bellingcat واستخدام رقم هاتف خط أرضي ينتحل رقما تابعا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، تحدث نافالني نفسه مع أحد القتلة المحتملين. وخلال المحادثة، كشف كونستانتين كودريافتسيف، الذي اعتقد أنه كان يتحدث إلى مسؤول رفيع المستوى في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي لإجراء تقرير بعد العملية الفاشلة، عن تفاصيل كانت مجهولة. وتبين أن الفريق الذي كان بحوزته مادة نوفيتشوك قام بوضع المادة في الملابس الداخلية لنافالني لإنجاز المهمة بشكل أسرع. ومن الجدير ذكره أن الفريق المعني باغتيال نافالني من جهاز الأمن الفيدرالي الروسي كان يتتبعه منذ ثلاث سنوات وهو في روسيا. وبعد محاولة اغتياله، ذهب عناصر الأمن إلى بلدة أومسك، حيث قام الطيار بهبوط اضطراري، من أجل استرداد ملابس نافالني والتخلص من الأدلة. ومن خلال محاولة تسميم سيرجي سكريبال وابنته يوليا على الأراضي البريطانية، أظهرت روسيا أيضا أنها لا تكترث كثيرا لرد المملكة المتحدة خاصة أو المجتمع الدولي عامة، الذي أعيد تأكيده في كل من الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في الأشهر الأخيرة. ونظرا إلى نجاة سكريبال ونافالني وتحديد القتلى المحتملين، فإن ما شكك فيه البعض على أنه عملية فاشلة غير متقنة قد يكون في الواقع جزءا من الرسالة المقصودة التي تقضي بأن أجهزة الاستخبارات الروسية مستعدة لقتل الشخصيات المعارضة في الدول الأجنبية من غير أن تفكّر في العواقب. وقد تصرف بعض المستبدين، بما في ذلك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بطريقة مماثلة إذ أرسل فرقا من القتلة في جميع أنحاء العالم لقتل منتقدي المملكة. وربما كان محمد بن سلمان قد تشجع على هذا بعد أن شاهد رد الفعل الصامت على محاولات الاغتيال التي ترعاها الدولة الروسية.
وتسلط قضية نافالني الضوء على الطريقة التي يعمل بها الكرملين تحت حكم بوتين الذي رفض الأدلة التي تؤكد تورط موسكو واصفا إياها بأنها «استفزاز مخطط يهدف إلى تشويه سمعة أجهزة الاستخبارات في روسيا» مؤكدا على أنه إذا أرادت موسكو قتل نافالني لكانت فعلتها. ومع ذلك، فإن الأدلة كثيرة على أن بوتين أراد إنهاء حياة نافالني بطريقة مؤلمة وأمام الملأ. ومن وجهة نظر عملية، أظهر فشل نخبة فرق الاستخبارات في روسيا صعوبة إجراء عمليات سرية حتى داخل البلد نفسه. وتثبت الهواتف المحمولة وسجلات السفر، من بين غيرها من المعلومات المفتوحة وشبه المفتوحة المصدر، أنها فعالة للغاية في تتبع الجرائم. وينطبق الشيء نفسه على إسقاط الطيران الروسي الرحلة MH17 فوق شرق أوكرانيا في تموز / يوليو 2014. وتتكيف أجهزة الاستخبارات أكثر فأكثر مع بيئة عمل تنحو إلى أن تكون أكثر ديناميكية على نحو يتيح وصول محللي الاستخبارات المستقلين والصحفيين الاستقصائيين إلى كم هائل من البيانات المتاحة للجمهور. ومع ذلك، فإن الاستعداد لتجاهل الالتزامات الدولية، وصعوبة مساءلة الدول الكبرى عن أفعالها، يدفعان هذه الدول إلى مواصلة ارتكاب مثل هذه الأعمال وإضعاف النظام الدولي القائم على قواعد معينة.
وتعكس الإجراءات الوحشية ثقة الكرملين المتزايدة في العمل خارج الحدود التقليدية. وهذا يحمل تداعيات مباشرة على الولايات المتحدة ويثير تساؤلات حول الأدوار المرتبطة بالعنف المناهض للدولة في واشنطن العاصمة وخارجها. ففي عام 2016، دفع المواطنون الروس لبعض الأمريكيين لحضور مسيرات مؤيدة لترامب، ودفعوا في إحدى المرات لامرأة لتتنكر بلباس هيلاري كلينتون داخل أقفاص وهمية. ومن الواضح أن تحدي مكافحة التجسس لم يكن أكثر إلحاحا مما هو عليه اليوم. وفي شريط من أشرطة فيديو اقتحام مبنى الكابيتول في واشنطن العاصمة الأسبوع الماضي، يمكن سماع صراخ أحد المتمردين الذين اخترقوا المبنى وهو يصرخ باللغة الروسية. وفي مثال آخر، تتطلب الأمر مترجما روسيا لإحدى المتمردات لفهم ما كانت متهمة به. وقد سرقت أجهزة الكمبيوتر المحمولة والوثائق من مبنى الكابيتول أثناء الحصار العنيف، ولا تزال التحقيقات في المسروقات غير كاملة. وقد تكون سرقة بعض الأغراض أمرا غير ذي بال ولكن اختراق مثل هذا الموقع الحكومي المهم قد يشير إلى أن الجهات الفاعلة قد تتمادى مستقبلا في جمع أغراض حساسة. وحتى اليوم، لا دليل قاطعا على أن عملاء المخابرات الروسية كانوا وراء المتمردين العنيفين الذين اجتاحوا مبنى الكابيتول، ولكن لا يمكن استبعاد موسكو تماما نظرا إلى ميلها لتجاوز كل الحدود.