أوّل الكلام آخره:
- بما أن التنافس بين القوى العظمى أصبح سمة أكثر بروزا في الجغرافيا السياسية، تنظر بعض الدول إلى منطقة القطب الشمالي على أنها ركيزة مهمة من ركائز استعادة مركز القوة العظمى.
- تصور روسيا تموضعها في منطقة القطب الشمالي على أنه تموضع دفاعي بطبيعته، رغم أنها تمتلك صواريخ كروز وطائرات مسيرة في المنطقة.
- يعد تأثير تغير المناخ في القطب الشمالي تطورا هاما تراقبه بلدان كثيرة عن كثب ويحمل تداعيات اقتصادية وأمنية خطيرة.
- كانت منطقة القطب الشمالي تعامل في السابق بوصفها منطقة تعاون غير مسيسة، ولكن يبدو أن هذا في طور التغير بسرعة نظرا إلى زخم التنافس بين القوى العظمى.
مع ارتفاع حدة التنافس بين القوى العظمى، بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وغيرها، تنظر الدول إلى الهيمنة في القطب الشمالي على أنها ركيزة مهمة من ركائز الجدارة بمكانة القوة العظمى. وفي الواقع، تنظر روسيا إلى منطقة القطب الشمالي بوصفها واحدة من المناطق القليلة التي يمكن أن تكون لها اليد العليا في مقابل الولايات المتحدة والصين، على الرغم من أن كلا من واشنطن وبكين يواصلان بناء قدراتهما في المنطقة. ولا تتمتع منطقة القطب الشمالي بإمكانيات اقتصادية هائلة فحسب، بل إنها أيضا تشكل خط المواجهة الأمامية لروسيا في شمال المحيط الأطلسي والذي يمكنها من الانطلاق واستعراض قوتها. وفي دليل آخر على أهميتها المتزايدة في الاستراتيجية العسكرية الشاملة لروسيا، ترفّع الأسطول الشمالي الروسي في كانون الثاني / يناير 2021 إلى «مقاطعة عسكرية» ضمن عملية إعادة تنظيم أوسع.
وقد كرست روسيا المزيد من الموارد العسكرية والمالية لتوطيد سلطتها في منطقة القطب الشمالي. وشمل ذلك إعادة بناء المطارات وبناء محطات رادار جديدة لتحسين الرصد في المجالين الجوي والبحري للكشف عن الطائرات والسفن البحرية وتعقبها. ويشكل تجديد القواعد العسكرية والبؤر الاستيطانية في عدد من الأراضي جزءا من جهود روسيا في القطب الشمالي، ومن هذه الأراضي جزيرة رانجل (على بعد 300 ميل فقط من ساحل ألاسكا)، وجزيرة كوتلني، وجزيرة الكسندرا لاند، وشبه جزيرة كولا، ونوفايا زيمليا وهو أرخبيل في المحيط المتجمد الشمالي. وفضلا عن ذلك، فقد كلفت روسيا قوات خاصة لتكون جزءا مما يسمى لواء القطب الشمالي، وهي تنتشر بانتظام في القطب الشمالي للتدريب العسكري. وتعني هذه الاستراتيجية أن موسكو قد أجرت العديد من المناورات العسكرية في المنطقة، وسعت إلى بناء قدراتها على الحظر البحري.
إن منطقة القطب الشمالي أساسية في الحفاظ على القوات النووية البحرية الاستراتيجية لروسيا. ويتألف الأسطول الشمالي من غواصات صواريخ وطوربيدات تعمل بالطاقة النووية، وطيارات حاملة للقذائف وطيارات مضادة للغواصات، فضلا عن تجهيزات أخرى. وتمتلك روسيا مجموعة متنوعة من الغواصات، بما في ذلك غواصات الهجوم السريع والغواصات التي تحمل أسلحة نووية، وهي تتمتع بقدرة مذهلة على تكسير الجليد من خلال أسطول يضم أكثر من 40 سفينة. وتساعد كاسحات الجليد في فتح الممرات حتى تتمكن السفن العسكرية والتجارية من العبور. وجهزت بعض كاسحات الجليد في روسيا بالصواريخ وتجهيزات الحرب الإلكترونية. وبالمقارنة، فالولايات المتحدة لا تملك إلا اثنين من قواطع خفر السواحل المجهزة للعمل على الغطاء الجليدي، على الرغم من أن واشنطن تتطلع إلى تمويل المزيد من كاسحات الجليد وتصنيعها.
والنتيجة هي نهج روسي متعدد الجوانب يأخذ في الاعتبار الفوائد الاقتصادية والعسكرية التي تتيحها السيطرة على القطب الشمالي، ويركز على حماية الطريق البحري الشمالي، فضلا عن إصلاح القواعد الجوية ومحطات الرادار والبؤر الأمامية الحدودية ومحطات الإنقاذ في حالات الطوارئ المتكاملة. وفي حين أن روسيا تصور تموضعها في القطب الشمالي على أنه تموضع دفاعي بطبيعته، فإنها تمتلك صواريخ كروز وطائرات مسيرة في المنطقة، مما تسبب في قلق الجيش الأمريكي. وتكمن أحد المبادئ الرئيسة للاستراتيجية الروسية في القطب الشمالي في منع الخصوم من الوصول، بما في ذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها. ولا تزال نقطة الاختناق البحرية المعروفة باسم فجوة GIUK-N (بين جرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة والنرويج) من مكامن الضعف بالنسبة لدول الناتو، ويمكن من خلالها أيضا تهديد خطوط الاتصالات البحرية للناتو.
ومن التطورات المهمة الأخرى التي تراقبها العديد من البلدان عن كثب تغير المناخ في القطب الشمالي وتداعياته. ومع استمرار ذوبان الجليد القطبي، سيجلب ذلك المزيد من الحركة البحرية في المنطقة وقد يعيد تشكيل طبيعة الطريقة التي تنظر بها البلدان إلى القطب الشمالي. كما ستتاح فرص جديدة لاستكشاف الطاقة، وربما طرق جديدة للتجارة لم تكن متاحة سابقا. وتشير بعض التوقعات إلى أن ذوبان الجليد قد يفتح ممرا للشحن قد يسهم في تخفيض وقت العبور بين جنوب شرق آسيا وأوروبا بنسبة تصل إلى 40 %. وعلى هذا النحو، تنظر روسيا إلى القطب الشمالي على أنه أداة ضرورية لتنمية مواردها الطبيعية، وعلى أنه محوري لاستراتيجيتها الجيوسياسية التي ترتكز على منافسة منافسيها القدامى في إطار صراع القوى العظمى.
وكان القطب الشمالي يعامل في السابق على أنه منطقة تعاون غير مسيسة، ولكن هذا على ما يبدو هو اليوم في طور التغير بسرعة نظرا إلى زخم التنافس بين القوى العظمى. ومن المثير للاهتمام أن روسيا ستتولى الشهر المقبل رئاسة مجلس القطب الشمالي (الذي يتكون من روسيا والولايات المتحدة وكندا والدنمارك وفنلندا وأيسلندا والنرويج والسويد) حتى عام 2023. وسيراقب المجتمع الدولي عن كثب ما إذا كانت روسيا ستحاول استغلال رئاستها للمجلس لتعزيز مصالحها الجيوسياسية في المنطقة وتقييد حركة منافسيها.