أوّل الكلام آخرُه:
- باشرت تركيا مؤخّرًا إعادة عشراتٍ من سجناء داعش إلى بلدانهم الأمّ وتوعّد أردوغان بإرسال المزيد خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.
- ورفضت أغلب الدول لا سيّما دول الاتّحاد الأوروبيّ استعادة المقاتلين السجناء وجرّدتهم من جنسيّاتهم تاركةً إيّاهم يقبعون في السجون ومنشآت الاحتجاز.
- إنّ تجاهل البلدان الأوروبيّة لقضيّة آلاف السجناء من المقاتلين الأجانب ولضرورة مثول هؤلاء أمام القضاء بسبب جرائمهم يُعدّ عملًا غير مسؤولٍ.
- وعلى المدى البعيد سيؤدّي العجز عن مواجهة هذا التحدّي بأساليب فعّالةٍ لا محالة إلى مخاطر مستقبليّةٍ كبرى.
أرجأ المسؤولون والسياسيّون في الحكومات الغربيّة لسنواتٍ طويلةٍ التعاملَ مع قضيّة المقاتلين الأجانب المحتجزين ولا يزال الغموض يحيط بهذه المسألة حتّى الآن. وبعد سحب الجنسيّة من المقاتلين الأجانب في صفوف تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) دافعت بعض الدّول الغربيّة الّتي ينتمي إليها هؤلاء عن قرارها بالزعم أنّ رغبة هؤلاء بالانضمام إلى هذه المنظّمة الإرهابيّة أفقدهم حقّهم في الجنسيّة. ولكنّ سحب الجنسيّة من مقاتلي داعش الأجانب ورفض عودتهم مع عائلاتهم إلى بلدانهم للمثول أمام القضاء قد يعني أنّ هذه البلدان تدفعهم (على نحوٍ غير مقصودٍ) إلى تمكين علاقتهم بالتنظيم وزيادة إيمانهم بأيديولوجيّته الإرهابيّة. وبهذه الخطوة تكون البلدان الأجنبّية قد أفسحت الطريق عن غير قصدٍ لهؤلاء المقاتلين الّذين باتوا بلا انتماءٍ وطنيٍّ من أجل تشكيل نواة قيام داعش من جديدٍ. وتفاقمت الأزمة عبر السنين حيث احتُجز آلافٌ من المقاتلين الأجانب الّذين ينتمون إلى عشرات البلدان الأجنبيّة في كلٍّ من العراق وسوريا. أمّا المنشآت الّتي يُحتجز هؤلاء السجناء فيها فهي غير مجهّزةٍ للاستخدام لوقتٍ طويلٍ وهي عرضةٌ لعمليّات فرارٍ ضخمةٍ، وكانت عمليّات تحرير السجناء من ضمن التكتيكات الّتي اعتمدها مقاتلو داعش لضمّ مزيدٍ من العناصر إلى صفوف التنظيم عندما كان في أوج زخمه أي بين عامي 2013 و2014.
والرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان خبيرٌ في تهديد الأوروبيّين بإغراقهم في طوفانٍ من اللاجئين معتمدًا هذه التصريحات نوعًا من أنواع الضّغط. ومن جهته توجّه الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى البلدان الأجنبيّة بتصريحاتٍ مماثلةٍ في شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي حيال مقاتلي داعش وعوائلهم مهدّدًا برمي هؤلاء على حدود البلدان الأوروبيّة. ولم تعد الأزمة مجرّد افتراضاتٍ، فبُعَيْد العمليّة العسكريّة التركيّة في الشمال السوريّ، ألقت القوّات التركيّة القبض على قرابة 3000 مقاتلٍ أجنبيٍّ محتجزين في سجونٍ ومنشآتٍ أخرى كانت تخضع سابقًا لقوّات سوريا الديمقراطيّة والقوّات السوريّة الكرديّة. وأكّد أردوغان مرارًا بأنّ على البلدان الأجنبيّة استرجاع مواطنيها من المقاتلين المعروفين ومناصريهم وعندما لم تستجب بلدان هؤلاء لمطالبه أخذ على عاتقه عمليّة إعادتهم إلى بلدانهم الأساسيّة. فخلال الأسبوع الماضي فقط، أعادت تركيا أعضاءً سابقين في داعش إلى أقاربهم وعوائلهم في ألمانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة والدنمارك والمملكة المتّحدة.
أمّا علاقة تركيا بالعديد من بلدان الاتحاد الأوروبيّ فتشوبها التوتّرات حول مسائل عدّةٍ من ضمنها المسائل الإنسانيّة والتنقيب غير المشروع عن النفط والسياسات الأمنيّة. وقد منحت أنقرة حقّ اللّجوء للنازحين السوريّين وللاجئين آخرين وقد طالبت مرارًا وتكرارًا دول الاتحاد الأوروبي ودولًا أخرى باستعادة مواطنيها. أمّا في مسألة اللّاجئين فقد تحمّلت تركيا العبء الأكبر حيث فتحت الباب لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئٍ وهي اليوم تواجه أزمةً أخرى وهي آلاف السجناء الّذين كانوا ينتمون إلى داعش. ولا تمتلك السلطات التركيّة خارطة طريقٍ تسمح لها بالتعامل مع هذه الأزمة. أمّا الدول الغربيّة فقد اختبأت خلف سلسلةٍ من الأعذار الّتي تسوّغ لها رفض استعادتها لمواطنيها من مقاتلي داعش. ومعظم هذه الأعذار أعذارٌ سياسيّةٌ حيث لا يرغب بعض السياسيّين في هذه الدول تحمّل مسؤوليّة الأخطار المحتملة عن عودة هؤلاء المقاتلين. فضلًا عن ذلك فإنّ بعض الهواجس القانونيّة تشغل بال هذه الدول الأجنبيّة، ومن ضمن هذه الهواجس، الشكّ في الاستحصال على أدلّةٍ تجرّم هؤلاء المقاتلين في المحكمة. وحتّى في حال وجود أدلّةٍ كافيةٍ فإنّ المدّة الّتي سيقضيها هؤلاء في السجن لن تكون كافية لردعهم. ومن جهةٍ أخرى فإنّ بعض الدول قد برّرت موقفها بكونها تفتقر للموارد الّتي تسمح لها بتعقّب هؤلاء المقاتلين العائدين ورصدهم ومراقبتهم. ويشكّل استحصال دليلٍ قانونيٍّ يدين بعض الجرائم مثل جرائم القتل والخطف والتعذيب في مناطق النزاعات النائية تحدّيًا ضخمًا إلّا أنّه على المعنيّين التصدّي لهذا التحدّي وهو أمرٌ عليهم فعله.
وضغطت الدول الأوروبيّة في سبيل محاكمة مواطنيها من مقاتلي داعش أمام القضاء العراقيّ واقترحت هذه الدول إنشاء محكمةٍ دوليّةٍ خاصّةٍ بهذه المسألة محاولةً بذلك تجنّب تحمّلها مسؤوليّة التعامل مع مواطنيها وهي مسؤوليّةٌ ثقيلةٌ من جهةٍ وضروريّةٌ من جهةٍ أخرى. ويُؤيّد بعض الخبراء التلكّؤ في إعادة المواطنين الأجانب المرتبطين بالإرهاب إلى بلدانهم حيث تسعى حكومات هذه البلدان إلى تجنّب عودة أيّ شخصٍ قد يُشكّل خطرًا على المجتمع وذلك بغرض حماية مواطنيها. إلّا أنّ هذه النظرة لا تشمل كافّة زوايا المسألة. فعلى المدى البعيد سيشكّل العجز عن مواجهة هذا التحدّي بطريقةٍ فعّالة خطرًا مستقبليًّا أكبر لا محالة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأوضاع المزرية الّتي يعيشها هؤلاء المقاتلون في مراكز الاحتجاز فضلًا عن انعدام المعاملة العادلة خصوصًا مع الأطفال يؤجّج لديهم المفاهيم السلفيّة الجهاديّة الّتي تُطالب بالانتقام والّتي شكّلت تكتيكًا فعّالًا في استقطاب المقاتلين.