أوّل الكلام آخره:
- لم تعد الحركة الجهادية تلك الحركة الثورية الطليعية كما كان يتخيلها زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، بل باتت اليوم حركة احتجاج شعبية كبيرة.
- شهدت الحركة الجهادية مسارا من التهجين والتسلّف، وتطورت بشكل كبير على مر السنين لتمثل ظاهرة أكثر تعقيدا.
- أدى ظهور الدولة الإسلامية المزعومة (داعش) إلى تكريس العمل الجهادي بوصفه مشروعا سياسيا ظهرت ملامحه الأولى في «نموذج الدولة الجهادية».
- تعتمد مواجهة التهديد الإرهابي الناجم عن الجهاديين على إدراك طبيعة تطور الحركة الجهادية وصياغة استجابات سياسية وعسكرية جديدة.
شكل تنسيق أسامة بن لادن وخالد الشيخ محمد لهجمات القاعدة الإرهابية في الولايات المتحدة في 11/9، لحظة فاصلة للحركة الجهادية العالمية. وقد دفعت الهجمات القاعدة إلى صدارة الأجندة الأمنية للغرب، واستحوذت على النصيب الأكبر من جهود السياسة الأمنية الغربية خلال العقدين الماضيين، وبلغ صداها العالم بأسره. ومنذ ذلك الحين، تحول تنظيم القاعدة والحركة الجهادية على عدة صعد مهمة، ليس أقلها ما حدث نتيجة ظهور داعش. وكان هدف بن لادن الأصلي يكمن في إنشاء حركة طليعية من شأنها أن تقود النضال ضد الأنظمة المرتدة في جميع أنحاء العالم الإسلامي وتحرض على العصيان والتمرد المحليين. ويبدو أن نجاح الحركة الجهادية العالمية تجاوز طموحات بن لادن، مع انتشار الجماعات التابعة لها في العديد من البلدان وتعبئة الآلاف من المقاتلين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الغرب. وعلى وجه الخصوص، نجح بروز داعش في تحويل الحركة الجهادية إلى حركة احتجاج شعبية، وجذب أناس لم يكن لديهم سوى القليل من الارتباط بالتطرف أو التشدد الإسلامي. واستمرارا لجهود القاعدة، حوّل داعش الجهادية إلى أيديولوجية أساسية للتمرد.
وقد قامت داعش وفروعها بتكرار نموذج إعطاء صلاحية إنشاء الفروع الذي كان تنظيم القاعدة قد اعتمده منذ عقود. ونشرت الشبكات الأساسية للمسلحين الإسلاميين نفوذها من الساحل في الغرب إلى الفيليبين في الشرق، ومن القوقاز في الشمال إلى الموزمبيق في الجنوب. وفي حين أن هؤلاء المسلحين ينطلقون من أيديولوجية جهادية متماثلة نسبيا، إلا أنهم غالبا ما يختلفون حول الأهداف والأولويات الفورية، وأحيانا حول التكتيكات. ولكن انتماء المجموعات إلى مجموعة أساسية واحدة يساعد في ترتيب الأولويات في إطار أجندة عالمية، بما في ذلك تحديد الأعداء. ومع ذلك تظل معظم هذه المجموعات تعمل وفق جدول أعمال محلي بالتوازي مع الجدول العالمي. والنتيجة هي حركة كثيرة التشعب تمكنت من تحديد أعدائها المحليين والعالميين وترتيبهم بدرجات متفاوتة مع مرور الوقت. وكان هذا واضحا خلال ذروة نفوذ داعش بين عامي 2015 و2017، عندما نجح التنظيم في توجيه العديد من حركات التمرد المحلية فيما نفذ في الوقت نفسه أفظع موجة من الإرهاب «الإسلامي» في الغرب حتى اليوم.
وعلى مر السنوات، شهدت الحركة الجهادية زيادة في منسوب «التسلف» مع تزايد شعبية السلفية داخل المجتمعات الإسلامية. وعلى الرغم من الاتفاق على وصف تنظيم القاعدة بأنه منظمة سلفية جهادية، إلا أنه احتوى في الواقع على مجموعة متنوعة من التعبيرات الأيديولوجية، حيث تأثرت قيادته أكثر بفكر الراديكالي المصري سيد قطب. وقد أخذ الفكر السلفي، الذي يتميز بتفسير صارم وحرفي للمصادر المقدسة في الإسلام، مكانة بارزة في الأوساط الجهادية ابتداء من أواسط العقد الأول من الألفية الثالثة، وذلك عندما تبناه بشكل تام أبو مصعب الزرقاوي وجماعته في العراق، بل يمكن وصف الجماعة بأنها أول مؤسسة تتبنى أيديولوجية سلفية جهادية خالصة. وسيطرت السلفية الجهادية في وقت لاحق على تفكير جهاديي داعش، وقد توضح ذلك خلال حكم داعش، وخاصة تركيزها على تلقين السكان وإخضاعهم لسيطرتها من خلال قواعدها الصارمة وممارساتها العقابية.
إن الطموح للحكم هو تطور آخر ساهم في احتلال داعش صدارة الحركة الجهادية. وقد استندت قوة القاعدة بصفتها مجموعة عسكرية ثورية إلى قدرتها على إحداث التغيير من خلال الهجمات الفعالة ضد الأعداء والتي أسهمت في استقطاب المزيد من الجهاديين. وكانت قدرة التنظيم على الحكم ضعيفة نسبيا، كما اتضح من فشله في القيام بأعباء الحكم بفعالية في كل من اليمن ومالي. ولكن تنظيم داعش وأسلافه في العراق كانوا أكثر ميلا لتحويل نضالهم العسكري إلى مشروع سياسي دائم. وخلال الفترة التي قضاها الزرقاوي في غرب أفغانستان بين عامي 1999 و 2001 حاول خلق مجتمع مصغر له. وبعد وفاته عام 2006، أعلن تنظيم القاعدة في العراق بداية مشروع «الدولة الإسلامية في العراق»، الذي تضمن منظمة سياسية رسمية مقسمة إلى وزارات مسؤولة عن حقائب محددة. وكان من شأن داعش ومنافسه الأكثر اعتدالا، هيئة تحرير الشام، أن يطورا هذا الكيان الجهادي، وأن يدعما التطور السياسي للحركة التي لطالما كانت تتجنب تفصيل مشروعها السياسي بشكل صريح.
وفضلا عن التطورات الداخلية للحركة السلفية الجهادية، فقد اضطرت أيضا للتكيف مع ضغوط مكافحة الإرهاب الشديدة من الولايات المتحدة وحلفائها. ولقد أدت الحملات العسكرية التقليدية وغير التقليدية والقيود المفروضة على السفر وأنظمة العقوبات إلى تكبيل قدرة الحركة على العمل واستئصال القياديين والحد من التهديد الإرهابي الذي تشكله على الغرب. وعلى الرغم من هذه الضغوط، لم تتمكن الحركة السلفية الجهادية من المكافحة للاستمرار فحسب، بل من الاستفادة بشكل متكرر من السياقات المناسبة لإعادة البناء والتعزيز. وقد مكنت الصراعات المستمرة والبيئات السياسية الهشة، بما في ذلك في سوريا والعراق وأفغانستان والصومال ونيجيريا والساحل والموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية، الجماعات الجهادية من العثور على ملاذات آمنة وتجنيد العناصر الجدد وتنظيم الحملات العسكرية، وأحيانا التخطيط لهجمات إرهابية وتوجيهها في الغرب. ومن المحزن الاستنتاج أنه وبعد مرور عشرين عاما على هجمات 11/9، تظهر الحركة الجهادية، على الأقل من حيث الوجود الجغرافي والدعم العددي أقوى من أي وقت مضى.
وفي حين قام صانعو السياسات بعمل مهم في صياغة تشريعات الإرهاب وتنفيذها والحد من المرونة التشغيلية للجهاديين، يبقى الكثير مما ينبغي عمله. ويمكن القول إن العامل الأكثر أهمية في مواجهة التهديد السلفي الجهادي هو التوصل إلى فهم أفضل لطبيعة الحركة الجهادية المعاصرة وتطورها على مر السنين إلى أن أصبحت حركة شعبية واسعة على الصعيدين المحلي والعالمي. ولم تعد الجهادية تمثل المتطرفين الدينيين بشكل حصري، ولكنها تقدم نفسها اليوم على أنها أيديولوجية أكثر عمومية للتمرد، وهو تطور يتطلب استجابة سياسية مختلفة وأوسع. ويوضح هذه النقطة مثالان، هما ظاهرة الأيديولوجيات المتقاطعة وظاهرة التحول السريع نحو التطرف. ومن الجدير بالذكر فيما يخص الظاهرة الثانية أن التحول نحو التطرف بات اليوم لا يحتاج أكثر من بضعة أسابيع أو أشهر فقط، بينما كان يتطلب سابقا سنوات من الدراسة بعناية والتدريب السري. ونتيجة لذلك، يجب على السلطات أن تتوقف عن صب تركيزها بقوة على التفسيرات الدينية المتطرفة وأن تدرج بدلا من ذلك «الضعف» عاملا من العوامل. إن متطرف الغد أو الإرهابي ليس بالضرورة الشخص الذي يتبنى الأفكار الأكثر تطرفا ولكنه في كثير من الأحيان شخص يفتقر إلى هوية مستقرة ويبحث عن هدف. إن مؤيد الزعبي، المدبر لما يسمى «مؤامرة أعواد الثقاب»، هو مثال من بين عدة أمثلة تثبت هذه النقطة.