أوّل الكلام آخره:
- قد يكون الانخفاض الأخير في أسعار النفط قد وفّر للعالم لمحة عن المستقبل الجيوسياسي للشرق الأوسط.
- سلطت حرب أسعار النفط الروسية السعودية الضوء على التصدعات في سوق النفط العالمية وفي التوازن الجيوسياسي للشرق الأوسط، وأظهرت أيضا مدى اعتماد اقتصاد المملكة العربية السعودية على السوق العالمية للنفط.
- على الرغم من فعالية الجهود الإيرانية للحد من اعتماد الميزانية على المنتجات النفطية في البداية، إلا أن هذا دونه عقبات كثيرة، وقد بدأ المسؤولون الحكوميون الإيرانيون بالبحث شرقا عن المساعدة، وهو الاتجاه الذي من المحتمل أن يستمر.
- إن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وتخليها عن عقيدة كارتر، فضلا عن النفوذ الروسي والصيني المتزايد في المنطقة، كلها عوامل تجعل من الرياض هشّة أمام أي تخفيضات في إيراداتها.
وفر الانخفاض الأخير في أسعار النفط لمحة للعالم أجمع عن المستقبل الجيوسياسي للشرق الأوسط. وأدت الآثار المتراكمة الناجمة عن حرب الأسعار الروسية السعودية ووباء كورونا إلى انهيار سعر نفط برنت الخام إلى حوالي 19 دولارا أمريكيا للبرميل الواحد. وستواجه البلدان التي تعتمد ميزانياتها على النفط المقدّر سعره بنحو 50 دولارا للبرميل الواحد، مشاكل عصيبة طويلة الأمد. ومن المرجح أن حرب الأسعار بين المملكة العربية السعودية وروسيا قد وصلت إلى نهاياتها المنطقية، ولكن تداعيات وباء كورونا على قطاع السفر والأعمال التجارية لا تزال قائمة حتى طرح لقاح فعال وموثوق ضد الوباء. ويدرك خبراء الاقتصاد وصناع السياسات في كل من المملكة العربية السعودية وإيران، القوتين الإقليميتين اللتين كانتا تعتمدان تاريخيا على إنتاج المنتجات النفطية وتصديرها، أن العالم قد بدأ مسار الابتعاد عن الهيدروكربونات منذ فترة وإن ببطء. ولكن الصدمة التي تعرض لها النظام العالمي قلّصت الوقت المتاح لاجتراح الحلول.
وفي أوائل آذار / مارس 2020، أدى الخلاف بين المسؤولين في موسكو والرياض حول خفض إنتاج النفط في أعقاب انخفاض الطلب الناجم عن وباء كورونا، والاشتباه السعودي في التزام روسيا بالتخفيضات المتفق عليها في إطار أوبك الموسّع، إلى مواجهة بين منتجي النفط الروس والسعوديين. وعلى الرغم من حل النزاع في نهاية المطاف عندما وافقت روسيا، على مضض، على خفض إنتاج النفط بشكل كبير بالتساوي مع السعوديين (وهي اتفاقية شبّهها مسؤول نفطي روسي بمعاهدة بريست ليتوفسك بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي)، فإن سعر برنت لم يعد بعد إلى سعر ما قبل النزاع. ومن الواضح أن هذه الحرب تسلط الضوء على التصدعات في سوق النفط العالمية وفي التوازن الجيوسياسي للشرق الأوسط. وتتمتع المملكة العربية السعودية، وهي أكبر مصدر للنفط في العالم، باقتصاد يعتمد بشكل هائل على السوق العالمية للنفط، بحيث تشكل عائدات النفط 50 % من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وعلى الرغم من أن خطة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الطموحة والمسمّاة رؤية 2030 تهدف إلى تقليل الاعتماد على الهيدروكربونات، تغيب المؤشرات المبشرة بتحقيق ما يرجو إليه في المستقبل القريب.
وفي حالة إيران، فإن التقلبات الأخيرة في سوق النفط ليست إلا حلقة في سلسلة التطورات المالية والسياسية التي عصفت باقتصاد البلاد، ولا سيما منذ بداية إدارة ترامب. وقد وضع انسحاب الإدارة الأمريكية من الاتفاق النووي الذي أقر في عهد أوباما وما تلا الانسحاب من فرض عقوبات اقتصادية ثقيلة على إيران ضغطا شديدا على صناعة النفط الإيرانية. وقد أجبرت هذه العقوبات صناع السياسة الإيرانيين على الابتكار. وأدت موجة من الإصلاحات، بما في ذلك زيادة الضرائب وخصخصة بعض الممتلكات التابعة للدولة، إلى خفض اعتماد إيران على النفط في ميزانيتها إلى 17 % من ناتجها المحلي الإجمالي عام 2018. ويعتزم المسؤولون الإيرانيون التخلص من الاعتماد على عائدات النفط بحلول عام 2024. وقد يكون تطبيق هذه الخطة الطموحة جدا ضروريا، فنتيجة للعقوبات المفروضة، يتعين على منتجي النفط الإيرانيين بيع منتجاتهم بسعر يقل بنحو 10 دولارات تقريبا عن سعر السوق لجعل انتهاك العقوبات أمرا مجديا، فيما كانت الميزانية الإيرانية لعام 2020 قد قدرت سعر البرميل الواحد بنحو 50 دولارا. إن الجهود الإيرانية للحد من اعتماد الميزانية على المنتجات النفطية قد نجحت بلا شك في البداية، ولكن المسؤولين الحكوميين يدركون صعوبة الاستمرار في هذا المسار، وقد أخذوا اليوم في البحث شرقا عن المساعدة، وهو الاتجاه الذي من المحتمل أن يستمر.
ومن المهم لإدراك التداعيات الاقتصادية لتقلبات عائدات النفط فهم السياقات الجيوسياسية. ففي أعقاب الانسحاب الأمريكي من سوريا وموقف واشنطن المتغير تجاه المشاركة في المنطقة، كرست روسيا بعض مواردها لإعادة التموضع في المنطقة ودعمت حكومة بشار الأسد طوال الحرب الأهلية السورية. ومن المرجح أن يسعى بوتين إلى صياغة سياسته الإقليمية في التعامل مع السعوديين من خلال منظار حرب الأسعار. أما الصين وإيران فهما في صدد وضع اللمسات الأخيرة على ترتيب اقتصادي وأمني ضخم يهدف إلى توفير وصول غير مسبوق للصين إلى الخليج الفارسي واحتياطي النفط الإيراني، مقابل الاستثمار الأجنبي والإغاثة الاقتصادية التي تحتاج إليها إيران بشدة. كل هذه العوامل، إلى جانب ما يتوقع من اعتلاء ولي العهد السعودي المتهوّر العرش، تعني أن أي تصعيد بين السعودية وإيران لن يكون في صالح السعوديين على ما كان الحال عليه قبل خمس سنوات. إن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وتخليها عن عقيدة كارتر، فضلا عن النفوذ الروسي والصيني المتزايد في المنطقة، كلها عوامل تجعل من الرياض هشّة أمام أي تخفيضات في إيراداتها، مما يجعل تنفيذ خطة رؤية 2030 أكثر أهمية من أي وقت مضى، على الرغم من التحديات التي تواجه المملكة في تنفيذها. ومن المؤكد أن التحالف الثلاثي الجديد سوف يجبر صناع السياسات في واشنطن والرياض ودول أخرى على إعادة النظر في فهمهم لديناميات القوى الإقليمية، والاستعداد لمواجهة جهات فاعلة جديدة تسعى إلى بسط نفوذها.