أوّل الكلام آخره:
- لا تزال الميليشيات الشيعيّة المدعومة من إيران في العراق نشطة على الرغم من اغتيال مرشدها الإيراني ومعه أحد أبرز قادة الميليشيات العراقيّة.
- تظهر على الساحة عدة شخصيات عراقيّة مرشّحة لملء الفراغ الذي خلّفه اغتيال قائد كتائب حزب الله أبي مهدي المهندس.
- تعدّ الميليشيات العراقيّة وقادتها السياسيّون في محور اهتمامات طهران الّتي يصعب عليها من غير هذه الميليشيات تحقيق هدفها الأساسي المتمثّل في إجبار القوّات العسكريّة الأمريكيّة على مغادرة العراق.
- يهدّد نشاط الميليشيات العراقيّة بمفاقمة الصراع بين الولايات المتّحدة وإيران إذا أودت هذه الهجمات بحياة مواطنين أمريكيّين أو ألحقت أضرارا بالغة بالمنشآت الأمريكيّة مثل السفارة الأمريكيّة في بغداد.
كانت الضربة الأمريكيّة في ٣ كانون الثاني/ يناير ٢٠٢٠ التي أودت بحياة قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ الإسلاميّ الإيرانيّ اللواء قاسم سليماني وأبي المهدي المهندس زعيم كتائب حزب الله، ضربة قويّة للبنية التحتيّة للميليشيات العراقية المدعومة من إيران. ومع ذلك، فإنّ دعم فيلق القدس الإيرانيّ للعديد من الميليشيات داخل العراق، وليس فقط كتائب حزب الله، وتنوّع التكتيك الإيرانيّ، قد مكّن العمليّات الإيرانيّة في العراق من الاستمرار. حتى إنّ كتائب حزب الله استعادت عافيتها بسرعةٍ بعد وفاة المهندس. ففي أواخر شباط / فبراير، حلّ أحد كبار قادة كتائب حزب الله، عبد العزيز المحمداوي (المعروف أيضا باسم أبو فدك أو «الخال») محلّ المهندس نائبا لرئيس هيئة الحشد الشعبيّ العراقيّ وقوّات الحشد الشعبيّ هي ائتلاف عسكري مكون من فصائل متعددة أنشئ عام ٢٠١٤ لمكافحة تحدّيات تنظيم «الدولة الإسلامية»، ويقوده اسميّا وزير الداخلية العراقي بينما يقوده فعليا نائب رئيس الحشد.
يحتلّ محمداوي مركزا يسمح له بمواصلة تنفيذ الاستراتيجيّة الشاملة التي وضعها سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ الإيرانيّ ويعمل فيها خلفه، إسماعيل قاآني. وفي عهد الإطاحة بصدّام حسين بقيادة الولايات المتّحدة عام ٢٠٠٣، كان محمداوي من الأقوياء في الميليشيات الأرسخ المدعومة من إيران، وهي «كتائب بدر» (التي سمّيت فيما بعد بمنظّمة بدر)، وكان مقرّبا من سليماني، وعلى الرغم من أنّه ترك منظّمة بدر للمساعدة في تأسيس كتائب حزب الله عام ٢٠٠٥، إلّا أنّه لا يزال مقرّبا من زعيمها هادي العامري. ولا تقف مسؤولية هذا الأخير عند زعامة المنظّمة فحسب، بل إنّه يرأس كذلك ثاني أكبر كتلةٍ في مجلس النواب العراقيّ «البرلمان». أمّا أكبر كتلةٍ فهي كتلة «سائرون» بقيادة رجل الدين صاحب الشخصيّة الكاريزميّة مقتدى الصدر الذي شكّل قوّات ميليشياويّة عام ٢٠٠٤ لمعارضة الوجود الأمريكيّ في العراق ولّدت العديد من الميليشيات النشطة حاليّا والمدعومة من إيران. فقد سقطت الفروع الصدرية مثل كتائب حزب الله تحت نفوذ طهران، في حين يدعو الصدر الآن إلى العمل على الحدّ من تأثير طهران على السياسة العراقيّة.
ويبقى السؤال البارز هو ما إذا كان مقتل سليماني والمهندس قد دفع طهران إلى تغيير استراتيجيّتها في العراق. والحقّ أنّ جميع المؤشّرات تؤكّد على أنّ مقتل الرجلين جعل إيران تضاعف جهودها لإجبار الـ ٥٢٠٠ جندي من عديد القوّات العسكريّة الأمريكيّة في العراق على الانسحاب. وما من دليلٍ على تقليص النفقات الإيرانيّة في العراق أو في أي مكانٍ آخر في المنطقة. وفي العراق، ترى إيران أنّ إجبار الولايات المتّحدة على الانسحاب هو انتقام لمقتل سليماني فضلا عن أنّه مساهمة في تحقيق هدف إيران الطويل الأمد المتمثّل في إبقاء القوات الأمريكيّة بعيدة عن الحدود الإيرانيّة. ولتحقيق هذا الهدف، تتبع إيران استراتيجية ذات مسارين، يتمثّل الأوّل في العمل مع قادة الفصائل في العراق لتمرير تشريع يطالب برحيل الولايات المتّحدة، ويتمثّل المسار الثاني في استخدام أنصارها من عناصر الميليشيات لمواصلة مهاجمة مواقع الولايات المتّحدة لجعل بقاء الولايات المتّحدة في العراق أكثر كلفة. وتحقيقا لتلك الغاية، لا يقتصر عمل إيران مع الصدر الذي يتفق مع طهران على ضرورة رحيل القوات الأمريكيّة فحسب، بل مع قادة الميليشيات الموالية لإيران الموجودين في البرلمان العراقيّ، بمن فيهم العامري وقائد ميليشيا عصائب أهل الحق قيس الخزعلي. وقد رفع الخزعلي من مكانته في الآونة الأخيرة بخطاباتٍ حادّةٍ مناهضة للولايات المتحدّة، يسخر فيها في بعض الحالات من فرض الولايات المتّحدة عقوبات عليه وعلى عصائب أهل الحق. وتشير هذه الخطابات إلى أنّ الخزعلي قد يحاول الظهور بصورة القائد الجديد البديل لإيران داخل العراق.
وعلى المسار العسكري، تواصل إيران دفع أنصارها العراقيّين لمهاجمة المواقع العراقيّة التي يتمركز فيها أفراد القوّات العسكريّة الأمريكيّة، ولا سيّما مجمّع السفارة الأمريكيّة في بغداد. ولم يقتصر الأمر على ميليشيا كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق، بل ظهرت في الأسابيع الأخيرة ميليشيا أخرى أكثر نشاطا مدعومة من إيران، هي حركة النجباء بقيادة الشيخ أكرم الكعبي. وفي منتصف شباط / فبراير، كانت حركة النجباء المسؤول الرئيس عن الهجمات الصاروخيّة على مجمّع السفارة الأمريكيّة و«المنطقة الخضراء» المحصّنة حيث السفارات والمنشآت الحكومية. كما نشرت الحركة صورة تشير إلى أنّها كانت تراقب القوّات الأمريكيّة في العراق وقادرة على ضربها.تعدّ ميليشيا النجباء حديثة نسبيّا، فقد تشكّلت عام ٢٠١٣ لمساعدة الرئيس السوري بشار الأسد على محاربة المتمرّدين المسلّحين الذين يهدّدون قبضته على السلطة. ويعدّ الكعبي، الذي يظهر أغلبيّة الوقت في ثياب القتال، راديكاليا يسعى إلى كسب ودّ طهران من خلال الإشادة بالأنشطة الإقليميّة الإيرانيّة في سوريا ولبنان واليمن ودول أخرى. ويمكن لهجمات النجباء أن تمثّل محاولة من الكعبي لمنافسة الخزعلي والعامري والمحمداوي لخلافة المهندس بوصفه حليفا عراقيّا موثوقا به. ومع ذلك، فإنّ التنافس بين قادة الفصائل العراقيّة لكسب تأييد طهران يزيد من احتمال اتّخاذ إجراءاتٍ مدعومةٍ من إيران تتجاوز «الخط الأحمر» لإدارة ترامب ممّا قد يستدعي ردّا عسكريّا أمريكيّا آخر. وتشمل هذه الخطوط الحمراء مقتل أفرادٍ عسكريّين أو مدنيّين أمريكيّين، أو إلحاق أضرار جسيمة بالمنشآت المأهولة التي تستخدمها الولايات المتّحدة. ولذلك، لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع الصراع بين الولايات المتّحدة وإيران مرّة جديدة في المستقبل القريب.