أوّل الكلام آخره:
- صاغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي صورة لروسيا الحازمة التي تتصدىلتعديات الغرب.
- وقد سلط خطابه الضوء على «القيم الروحية والأخلاقية» وحاول وصف الغرب بالدونية، متجنبا التحدث عن القضايا الداخلية لروسيا.
- كان الهدف من تركيز بوتين على الترسانة النووية الروسية تذكير المجتمع الدولي بقدرات موسكو العسكرية القوية.
- تقوض بعض الأعمال المتفلتة التي تقوم بها روسيا خارج البلاد والقمع الوحشي داخلها رغبتها في أن ينظر إليها على أنها قوة عظمى.
في الوقت الذي يواجه فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اضطرابات داخلية متزايدة تتعلق بسجن المعارض والناشط أليكسي نافالني، يعيد توجيه انتباه المواطنين إلى القضايا الدولية ومكانة روسيا في الشؤون العالمية. وفي خطاب كان قد ألقاه الأسبوع الماضي، صاغ بوتين صورة روسيا القوية والحازمة التي تتصدى لتعديات الغرب، كما أنه توعد فيه برد «سريع وصعب» إذا تجرأ خصوم روسيا على «تجاوز الخط الأحمر الذي رسمته روسيا». وكان انتقاد إدارة بايدن واضحا في عدة أجزاء من الخطاب، ولا سيما أنه جاء في ظل الغضب الروسي بسبب الجولة الأخيرة من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، وبسبب تعليق الولايات المتحدة على حشد القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية.
وقد حاذر بوتين من أن ينظر إليه على أنه «الحصان الخاسر»، فوضع بلاده مع الولايات المتحدة والصين على صعيد واحد في إطار سباق القوى العظمى القائم. غير أن المنافسة كما ينظر إليها في العلاقات الدولية والسياسة العالمية غالبا هي بين واشنطن وبكين، مع استبعاد موسكو في بعض الأحيان تماما. وكثيرا ما توصف روسيا بأنها «تحاول استعادة أمجادها»، فهي رغم قوتها، في تراجع وتعتمد بشكل مفرط على موارد الطاقة للحفاظ على اقتصادها. وقد سعى بوتين من خلال لهجة خطابه إلى تعويض هذا وإعادة تأكيد وعده بإعادة روسيا إلى موقع العظمة. وقد أدى هذا الهدف إلى زيادة نشاط موسكو في الخارج، ونشر قوات أو مرتزقة في العديد من مناطق الصراع والسعي إلى زيادة نفوذ روسيا من أمريكا اللاتينية إلى بلاد الشام. كما ثبّت الحضور الروسي في سوريا وأوكرانيا وليبيا وفنزويلا ودول مختلفة في جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى بصمة موسكو العالمية. وقد نشرت روسيا موارد عسكرية ومالية محدودة في العديد من الصراعات والحروب، وبالتالي، أصبحت من الجهات الأساسية الموكل إليها إيجاد الحلول. وفضلا عن ذلك، فقد انتقلت روسيا إلى توسيع حضورها وأنشطتها بشكل كبير في منطقة القطب الشمالي. ومن الجدير ذكره في خطاب بوتين اهتمامه بالتفاصيل عند وصف الترسانة النووية الروسية، بما يمكن أن يعدّ تذكيرا صارخا بالقوة العسكرية الروسية.
وقد سلط الخطاب الضوء على «القيم الروحية والأخلاقية» المفترضة لروسيا وحاول وصف الغرب بالدونية. ولا تزال التوترات عالية بين روسيا والولايات المتحدة. فالتدخل في الانتخابات الأمريكية واستمرار الهجمات الإلكترونية، فضلا عن الحشد المتزايد للقوات على طول الحدود مع أوكرانيا، كلها قضايا تعهدت إدارة بايدن بمعالجتها مباشرة. وتعد العقوبات التي سنت مؤخرا ردا مباشرا على اختراق «الرياح الشمسية» التي تلقي فيها واشنطن اللوم على موسكو. وبعد أربع سنوات من إدارة ترامب المتراخية، سيوضع بوتين مرة أخرى في دائرة المساءلة على مغامراته الخارجية. وتشير التقارير إلى أن البيت الأبيض والكرملين يجريان محادثات لتحديد موعد قمة بين الرئيس جو بايدن وبوتين. كما يتعين على الولايات المتحدة وروسيا العمل في مناطق معينة معا. فعلى سبيل المثال، تحقق بعض التقدم في معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة، كما أن روسيا وافقت على الانضمام إلى قمة المناخ في البيت الأبيض. وفي المقابل، تتنامى علاقات روسيا مع بعض القوى العظمى الأخرى. ولا شك أن العلاقات الودية مع الصين والتعاون المتنامي بين موسكو وبكين في العديد من المناطق ذات الأهمية الجيوسياسية، وخاصة خلال الفراغ الدبلوماسي والاستراتيجي على مدى السنوات الأربع الماضية، تشكل تحديات مباشرة للولايات المتحدة.
وبالنسبة لبعض المحللين، كان خطاب بوتين محاولة لإعادة توجيه انتباه الروس بعيدا عن سلسلة القضايا والتحديات المحلية التي تواجه البلاد. وقد كان تعامل بوتين مع الكورونا كارثيا، شأنه شأن قادة آخرين، ومنهم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والرئيس البرازيلي جايير بولسونارو ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. وتفتقر الحكومة الروسية إلى الشفافية، ولذلك فإن الأرقام الرسمية مجهولة، ولكن مقالة حديثة في صحيفة نيويورك تايمز أشارت إلى أن معدل الوفيات في روسيا قد يكون من بين أعلى المعدلات في العالم. وعلى الصعيد المحلي، تعتمد موسكو على موارد الطاقة للحفاظ على اقتصادها، ولا تزال المؤشرات الصحية والديموغرافية سلبية للغاية. وعلى الرغم من التطلعات الروسية إلى اعتلاء مركز القوة العظمى، إلا أنها لا تزال تتصرف بوصفها دولة مارقة، فهي ترسل عملاء استخباراتها إلى الخارج لاستهداف أعداء الكرملين على الأراضي الأجنبية باستخدام عامل أعصاب قاتل. ولكن صرف الانتباه بعيدا عن التحديات المحلية قد لا يجدي نفعا لفترة طويلة، ويتضح ذلك من الاحتجاجات الأخيرة لدعم نافالني، الذي عاد مرفوع الرأس من ألمانيا إلى روسيا، بعد تعافيه من عامل الأعصاب الكيميائي الذي سممه به ضباط المخابرات الروسية. وقد أثار إضرابه الأخير عن الطعام موجة من التصريحات الصادرة عن الولايات المتحدة وحلفائها حول ضرورة التزام روسيا بحماية حياته وصحته، فضلا عن مؤيدي اليسار الذين يراقبون بعناية مراحل تحسنه ويتسابقون لدعمه على الرغم من المخاطر الهائلة. ويبدو أن بوتين مصاب بالرهاب من استخفاف الغرب به، ولكن قد يكون منهجه القصير النظر في التعامل مع المعارضة الداخلية هو الذي سيقود روسيا في النهاية إلى الانزلاق إلى الاضطرابات.