أوّل الكلام آخره
- يأخذ رئيس مجلس الوزراء العراقي الجديد محمّد شيّاع السوداني مصالح واشنطن بعين الاعتبار في خضمّ التوتّر المتصاعد بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران.
- في منتصف شهر كانون الثاني/يناير، خاطر السوداني بإغاظة قاعدته السياسيّة عبر دعمه لتواجد ألفيّ جنديّ أمريكيّ بشكل دائم على الأراضي العراقيّة من أجل مساعدة القوّات العراقيّة في القتال ضدّ بقايا بما يسمى تنظيم الدولة الإسلاميّة.
- يطبّق المسؤولون الماليّون الأمريكيّون إجراءات إضافيّة للحدّ من تدفّق الدولارات الأمريكيّة من الكيانات التجاريّة العراقيّة باتّجاه الكيانات الإيرانيّة الخاضعة للعقوبات.
- يؤدّي التزام العراق بتنفيذ العقوبات الأمريكيّة إلى صعوبات اقتصاديّة تثير ردود فعل عنيفة من قبل التجّار العراقيّين والفئات الأكثر فقرًا من الشعب العراقي.
في خلال العقدين اللذين تليا الإطاحة بنظام صدّام حسين، تنافست كلّ من الولايات المتّحدة وإيران التي تحظى بولاء عدد كبير من المجموعات الشيعيّة المنظّمة في العراق على بسط النفوذ في البلاد. فبعد مساعدة العراق على إلحاق الهزيمة بما يسمّى تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) الذي سيطر على أراضٍ عراقيّة وزعزع استقرار القوّات العراقيّة وحكومة العراق، حافظت الولايات المتّحدة على وحدة متقلّصة ولكنّها لا تزال كبيرة من العسكريّين في العراق لتدريب القوّات العراقيّة وتجهيزها وتقديم الخدمات الاستشاريّة لها لمنع عودة داعش. وعلى الرغم من أنّ القوّات الإيرانيّة خاضت قتالًا متوازيًا لإنهاء تهديد داعش في العراق، سعى القادة الإيرانيّون بشكل مستمرّ لوضع حدّ للمهمّة العسكريّة الأمريكيّة فيه، حيث تعتبرها إيران رافعة عسكريّة للولايات المتّحدة ضدّها. وبدت طهران قريبةً من تحقيق أهدافها في العراق في خريف العام 2022 عندما تمكّن النظام السياسيّ العراقيّ المتأزّم من إنتاج حكومة قوامها الأساسيّ الفصائل والشخصيّات السياسيّة الموالية لإيران، بما في ذلك بعض الميليشيات المدرجة على القائمة الأمريكيّة للإرهاب.
فرئيس الحكومة العراقيّة الجديد السيّد محمّد شيّاع السوداني هو حليف رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي حليف إيران في العراق. و أثناء تولّيه منصبه، استعدى المالكي عددًا كبيرًا من العراقيّين السنّة لدرجة تمكّننا من القول إنّه سهّل ولو بشكل جزئيّ بروز داعش. ويرى مسؤولون أمريكيّون أنّ الحكومة السوداني الجديدة ستلبّي مطالب قادة الفصائل الموالية لإيران بضرورة سحب الولايات المتّحدة ما تبقّى من جنودها من العراق، غير أنّ مسؤولًا سابقًا في إدارة ترامب قال في مجلس خاصّ إنّ رؤساء الحكومات في العراق لطالما كانوا منسجمين في التعبير عن موقفهم الداعم للوجود الأمريكيّ في البلاد منذ اغتيال قاسم سليماني في مطلع العام 2020. وفيما أقرّ البرلمان العراقيّ قرارًا غير ملزم يدعو إلى إخراج الجيش الأمريكي من العراق بُعيد مقتل سليماني، أظهر استطلاع للرأي في العام نفسه أنّ الولايات المتّحدة لا زالت تتمتّع بتأييد يعادل ضعف الدعم لإيران في البلاد، وذلك بحسب المعهد المستقلّ للإدارة ودراسات المجتمع المدنيّ ومقرّه العراق.
ولقد مالت دفّة ميزان النفوذ في العراق بعيدًا عن إيران بشكل أكبر في أواخر سنة 2022، عندما فرضت الولايات المتّحدة والدول الأوروبيّة عقوبات إضافية على النظام الإيراني بسبب قمعه انتفاضة داخليّة كبيرة أشعلتها انتهاكات حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وبسبب دعم إيران المادّيّ للحرب الروسيّة في أوكرانيا. وأدّت تصرّفات النظام الإيراني على المستويين المحلّيّ والدوليّ إلى الإسهام في تلطيخ صورته أمام أطياف واسعة من الشعب العراقي الذي كانت أغلبيّته الساحقة تعتبر أنّ إيران تستغلّ الثروات الاقتصاديّة العراقيّة وتغذّي التوتّر الطائفيّ بين الأكثريّة الشيعيّة والأقلّيّة السنّيّة في العراق. في منتصف كانون الثاني/يناير، وفي ما بدا على أنّه إدراك بأنّ الموقف الإيرانيّ المحلّيّ والدوليّ صار أضعف، جازف السوداني بإمكانيّة توليد ردّ فعل قويّ في أوساط قاعدته السياسيّة الأساسيّة عندما اتّخذ موقفًا بالاستمرار في الاعتماد على الولايات المتّحدة من دون تردّد. في هذا السياق، جاهر السوداني برفضه تحديد مهلة زمنيّة لوجود المستشارين العسكريّين الأمريكيّين وعددهم حوالي 2000 في العراق هذا إضافةً للقوّات التابعة لحلف شمال الأطلسي و التي لا تزال متمركزةً على الأراضي العراقيّة، مبرّرًا قراره بالحاجة إلى منع مقاتلي داعش من دخول العراق عبر سوريا. وصرّح السوداني لصحيفة وول ستريت جورنال قائلًا: “نرى أنّنا بحاجة إلى القوّات الأجنبيّة… القضاء على داعش بحاجة إلى بعض الوقت الإضافي.” ولكنّ رئيس الحكومة العراقية أضاف أنّ العراق ليس بحاجة إلى “وحدات قتاليّة” موضحًا أنّه باستطاعته أن يحافظ على علاقات جيّدة مع الولايات المتّحدة وإيران في الوقت نفسه.
وفي معرض الحديث عن إرادة الحفاظ على علاقة وطيدة بواشنطن، وهو أمر لا بدّ وأنّه أثار حفيظة القادة في طهران وعدد كبير من الحلفاء الشيعة في بغداد، قال السوداني إنّه يودّ أن تجمع العراق نفس العلاقات العميقة مع الولايات المتّحدة والسعوديّة والبلدان الخليجيّة الأخرى المنتجة للنفط والغاز. وفي إطار الجهود الآيلة إلى تعزيز العلاقات مع المسؤولين الأمريكيّين، التقى السوداني مبعوث البيت الأبيض إلى منطقة الشرق الأوسط بريت ماكغورك في السادس عشر من كانون الثاني/يناير، فيما من المتوقّع أن يزور وزير الخارجيّة العراقي فؤاد حسين واشنطن في مطلع شباط/فبراير للتمهيد للقاء السوداني الرئيس الأمريكي جو بايدن في العام 2023.
غير أنّ مخاطر قرارات السوداني ما لبثت أن ظهرت. ففي أعقاب مقابلته مع صحيفة وول ستريت جورنال، تبنّى فصيل المقاومة الدوليّة، وهو ميليشيا من شبه المؤكّد أنّها على ارتباط بالفصائل الشيعيّة العراقيّة التي يدعمها الحرس الثوري الإيراني – فيلق القدس، هجومًا بعبوة ناسفة مزروعة بجانب الطريق استهدفت رتلًا أمريكيًّا بالقرب من بغداد.
بالإضافة إلى ذلك، قد يهدف السوداني من خلال جهوده لتعزيز العلاقات مع واشنطن إلى إقناع مسؤولين أمريكيّين بتخفيف العقوبات ضدّ إيران والتي تؤثّر سلبًا على الشعب العراقي واقتصاد البلاد. وكان الاحتياطي الفدرالي الأمريكي الذي يحتفظ بحسابات الحكومة العراقيّة حيث تودع عائدات نفط العراق قد فرض متطلّبات شفافيّة جديدة في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2022 من ضمن الجهود الأمريكيّة لتشديد العقوبات على إيران، ما أدّى إلى إدراج البنك المركزي العراقي مصارف عراقيّة متعدّدة على القائمة السوداء. كانت النتيجة انخفاض المعاملات بالدولار الأمريكي، ما أدّى بدوره إلى إضعاف الدينار العراقي. وهدفت تدابير الاحتياطي الفدرالي إلى الحدّ من تدفّق الدولارات الأمريكيّة نحو النظام المصرفي العراقي والشبكات غير الرسميّة للتداول بالعملات التي كانت تسهّل وصول الأموال إلى الكيانات الإيرانيّة الخاضعة للعقوبات. وبحسب مستشار ماليّ للسوداني، رفض الاحتياطي الفدرالي الأمريكي حوالي 80% من طلبات تحويل الأموال إلى المصارف العراقيّة منذ دخول تلك السياسة حيّز التنفيذ في شهر تشرين الثاني/نوفمبر. ومن ضمن جهود التعاون مع السلطات الأمريكيّة، أمر السوداني في الحادي والعشرين من كانون الثاني/يناير وحدة نخبة عراقيّة لمكافحة الإرهاب كانت قد شُكّلت لقتال داعش باتّخاذ إجراءات صارمة ضدّ المتداولين بالعملات الضالعين في عمليّات تحويل الدولار إلى إيران. ولكنّ هذه الإجراءات أدّت إلى ردّ فعل عنيف رافض لها محلّيًّا، إذ يبدو أنّ القوّات العراقيّة قد تعرّضت لإطلاق نار من قبل تجّار غاضبين بسبب القيود الحكوميّة. واتّهم أحد حلفاء السوداني في البرلمان العراقي عقيل الفتلاوي رئيس مجلس الوزراء بالخضوع للضغوط الأمريكيّة، قائلًا إنّ القيود الأمريكيّة على الدولار فُرضت لإجبار السوداني على الاصطفاف في معسكر “المصالح الأمريكيّة.”
وفي إطار يتعدّى خسارة الدعم السياسيّ، أدّت جهود السوداني للالتزام بالعقوبات الأمريكيّة على إيران إلى إشعال فتيل اضطرابات شعبيّة أوسع نطاقًا. فمع تراجع المعاملات بالدولار الأمريكي في العراق من 200 مليون إلى حوالي 60 مليون دولار باليوم، ومع فقدان الدينار العراقي قيمته أمام الدولار الأمريكيّ من 1470 في ديسمبر إلى 1620 في أواخر يناير، ارتفعت معدّلات التضخّم في السلع الاستهلاكيّة العراقيّة، ما أثّر سلبًا بشكل أساسيّ على ذوي الدخل المحدود من الشعب العراقي، وأدّى كلّ ذلك إلى مظاهرات بالقرب من البنك المركزي العراقي. وفي محاولة لتأمين استقرار سعر صرف الدينار، أقال السوداني محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف في الثالث والعشرين من كانون الثاني/يناير.
ممّا لا شكّ فيه أنّه إذا ما التقى رئيس الحكومة السوداني الرئيس بايدن في وقت لاحق من هذا العام، سوف يلحّ على المسؤولين الأمريكيّين لخفض القيود المفروضة على التعامل بالدولار والسياسات الأخرى التي تصعّب عليه الحفاظ على التوازن في العلاقات بين العراق وطهران من جهة وواشنطن من جهة أخرى. ويأمل المسؤولون الأمريكيّون أن يستمرّ السوداني بالتعاون مع واشنطن بالرغم من المخاطر على قيادته للبلاد، ما من شأنه أن يوسّع شبكة التحالفات الإقليميّة الأمريكيّة بشكل يسهّل إبراز القوّة الأمريكيّة وتأمين إمدادات النفط العالميّة والعمل على الحلول الدبلوماسيّة للنزاعات المتعدّدة في المنطقة.