أوّل الكلام آخره:
- أمّا وقد طوّرت المختبرات لقاحاتها ووافقت عليها الهيئات المختصة، فإن العالم يشهد اليوم سباقا بين الدول على «سواعد المواطنين».
- ستحدد المنافسة على اللقاحات ودبلوماسية الصحة العامة سمات الجغرافيا السياسية لعام 2021.
- يعد توزيع اللقاحات فرصة فريدة من نوعها للقوة الناعمة لدول مثل الصين والهند والولايات المتحدة تظهر من خلالها رعايتها للقضايا الإنسانية.
- ستحتاج الدول الأكثر ثراء إلى التبرع والمساعدة في توزيع مليارات من جرعات اللقاح على المناطق التي تعاني من الوباء، وهو أمر لازم من الناحيتين الأخلاقية والعملية على حد سواء.
يسعى المجتمع الدولي إلى الحد من تسارع وتيرة تعديل فايروس كوفيد-19 لنفسه كي تظل اللقاحات التي توزع فعالة. ويتحقق ذلك عن طريق الحد من الانتشار العام للمرض، وتبرز علامات مشجعة على إحراز تقدم في بعض البلدان والمناطق، لكنه للأسف كان تقدما محفوفا بالعثرات. كما أن استهتار العديد من الدول بعد أن تمكنت في مرحلة سابقة من تحقيق انخفاض في معدلات الإصابات والوفيات، قد أعادها إلى نقطة الصفر. ويعد تطوير العديد من اللقاحات إنجازا رائعا، سواء من حيث الزمن الذي استغرقه التطوير أو الإنتاج، أو من حيث معدلات الفعالية العالية التي تشمل الوقاية من العدوى والمرض. ويبعث تطوير اللقاحات وتوزيعها على التفاؤل بإمكانية كسر حلقات العدوى، ولكن يبقى توقع مثل هذه النتيجة سابقا لأوانه. أما اليوم، فإن تلقيح ملايين البشر هو التحدي الأكثر إلحاحا للمجتمع الدولي. ويمكن تسمية هذا التحدي، إذا جاز التعبير، بـ«سباق على سواعد المواطنين» يناظر السباق على التسلح فيما مضى، والمفارقة أنه يحمل اسمه بالإنجليزية (arm race) أيضًا فكلمة arm تعني الساعد وتعني السلاح معًا. وكما سعت الدول القوية فيما مضى إلى البروز بوصفها قوى عظمى في ميدان السلاح، فإنها تسعى اليوم إلى أن تظهر بوصفها القوى العظمى في ميدان الصحة العامة، من خلال البروز في طليعة الدول التي تبذل جهودا جبارة في مجال اللقاحات. ولقد رأينا الصين تلعب دورا بارزا في توفير معدات الوقاية الشخصية والمساعدة الطبية للدول الأخرى بعد أن بدأت في السيطرة على الوباء داخل حدود بلادها، في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تعاني فيه للحصول على مساعدة فيدرالية.
ولطالما كانت الهند «قوة لقاحات» حتى قبل الكورونا، فهي مصدر أكثر من 60 ٪ من لقاحات العالم. فمصنع واحد من مصانعها فقط، معهد المصل في الهند، ينتج ما يعادل 2.5 مليون جرعة لقاح كورونا يوميا. وتستخدم الهند اليوم هذه القدرة لمساعدة الدول في جميع أنحاء جنوب آسيا، من خلال توفير كميات هائلة من اللقاح للدول التي تعاني من الحصول عليه. ولكن الجغرافيا السياسية يندر أن تكون عملا خيريا، والواقع أن ما تسعى إليه الهند هو التفوق على الصين في توزيع اللقاحات على نحو يوسع نفوذها ويظهر نواياها الحسنة تجاه جيرانها. وقد قدمت الهند لقاحات إلى النيبال وبنغلادش وأفغانستان وسريلانكا والعديد من الدول الأخرى. وتبرعت نيودلهي بـ 50,000 جرعة إلى سيشل بعد أسابيع قليلة من تبرع الصين بـ 50,000 جرعة أخرى من اللقاح الخاص بها. وفي الآونة الأخيرة، أعلنت الهند أيضا عن إرسال 200,000 جرعة لقاح لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والتي تضم مواطنين من جنوب آسيا بنسبة كبيرة. وقد يكون هذا السباق سمة مميزة للجغرافيا السياسية لعام 2021. والأكيد أن بعض الدول ستسعى إلى النفوذ إلى العملية بالاعتماد على الهجمات الإلكترونية للوصول إلى اللقاح. وستسعى بعض الجهات الفاعلة إلى نشر الروايات المناهضة للقاحات على وسائل التواصل الاجتماعي لزعزعة استقرار الدول من خلال التضليل المرتبط بالصحة.
وتكافح الهند، كغيرها من الدول، من أجل وضع خطط فعالة لتوزيع اللقاحات، وهذا قد أدى إلى إنتاج فائض من اللقاحات في انتظار استكمال خطط التوزيع. ومما لا شك فيه أن تلقيح العدد المطلوب من سكان الهند البالغ عددهم 1.2 مليار نسمة لتحقيق ما يسمى «مناعة القطيع» سيتطلب مجهودا عظيما. وتكافح الولايات المتحدة أيضا للحصول على اللقاحات لعدد كاف من مواطنيها، على أنه يلاحظ تحسن ملموس في هذا الصدد، فقد قدمت جرعة واحدة على الأقل إلى 12 في المئة من السكان، ولكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن هذه اللقاحات تتطلب جرعتين على مدى عدة أسابيع لتكون فعالة. ولا يزال تقديم اللقاحات التي تحتاج إلى أن تحفظ في درجات حرارة منخفضة للغاية يشكل تحديا أمام مؤسسات الصحة في الأرياف، ولكن يجري العمل اليوم على لقاحات لا تتطلب الصرامة نفسها، ولا تتطلب تناولها مرتين. وقد أدت الظروف الجوية القاسية في مناطق متعددة من الولايات المتحدة وانقطاع التيار الكهربائي وإغلاق بعض الطرق الرئيسة إلى تعقيد مسار التخزين وعملية التسليم.
وستحتاج الدول الأكثر ثراء إلى التبرع والمساعدة في توزيع مليارات جرعات اللقاح على المناطق التي تعاني من الوباء، وهو أمر لازم أخلاقيا وعمليا على حد سواء. وفي مؤتمر ميونيخ الأمني يوم الجمعة، أعلن الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستساهم بمبلغ 4 مليار دولار لشركة COVAX ولمنظمة الصحة العالمية لدعم توزيع اللقاحات عالميا. وبوضوح كبير، أظهرت الكورونا الترابط بين الاقتصادات والمجتمعات من ديترويت إلى دلهي. وقد سعت الحكومات بالفعل إلى توسيع دوائر نفوذها من خلال التبرع بملايين اللقاحات التي تحمل أسماءها. وعلى عكس «سباقات التسلح» السابقة، فإن لهذا السباق أثرا إيجابيا بالغا في الصحة العالمية. وسيكون التأثير الإيجابي على المدى الطويل في الدول التي يمكنها الحفاظ على هذه القدرات واللوجستيات والبنى التحتية لسلاسل التوريد استعدادا لأي حالة طوارئ صحية عالمية في المستقبل. وكما هو الحال مع تسارع تغير المناخ، يجب على المجتمع الدولي أن يتعاون حتى لا تدمر الأوبئة المستقبلية الاقتصاد العالمي بالكامل وتترك الملايين يمرضون ويموتون بعدها. وحتى اليوم، لا دليل على أن الإرهابيين والجماعات المسلحة الأخرى قد سعت بالفعل إلى استخدام الفيروس سلاحا، ولكن مع رفع القيود المفروضة جراء الوباء، على اللوجستيات والبروتوكولات التي طورت خلال عملية توزيع اللقاحات أن تمكّن الحكومات من زيادة التدابير الأمنية ضد مثل هذه الاحتمالات.