أوّل الكلام آخره:
- تصاعدت حدة التوتر في شرقي البحر المتوسط مع مضي اليونان وإسرائيل وقبرص قدما في العمل على خط أنابيب الغاز «إيست مد» المخطط له مما أثار غضب تركيا.
- أدان الاتحاد الأوروبي عمليات الحفر التركية قبالة سواحل شمال قبرص التركية غير المعترف بها وفرض عقوبات ردا على هذا الفعل.
- تعد ليبيا محور المنافسة في مجال الطاقة، وهي بلد غارق في الحرب الأهلية ومسرح لتدخل مجموعة من الدول الخارجية.
- تؤثر التوترات المتصاعدة في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إذ تقف فرنسا واليونان (مع قبرص التي لا تنتمي إلى الحلف) في مواجهة تركيا.
اجتمعت عوامل الجغرافيا السياسية المرتبطة بالطاقة مع المنافسة التجارية والنزاعات الإقليمية والانقسامات داخل الناتو كلها شرقي البحر الأبيض المتوسط. ومؤخرا، أعطت الحكومة الإسرائيلية الموافقة النهائية على اتفاق خط أنابيب «إيست مد» الذي كانت اليونان وإسرائيل وقبرص قد وقعته في كانون الثاني / يناير، في ظل حكومة إسرائيلية مؤقتة لم تكن قادرة وقتها على منح الموافقة النهائية. وأزالت المصادقة الإسرائيلية الأخيرة العقبة البيروقراطية الأخيرة أمام المشروع وسمحت للأطراف جميعا بالمضي قدما في خططها لاستكماله. ويهدف مشروع خط الأنابيب المستقبلي إلى نقل ما يصل إلى 12 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي الإسرائيلي والقبرصي سنويا إلى جنوب أوروبا مرورا باليونان بدءا من عام 2025. وردا على ذلك، قررت تركيا استكشاف الهيدروكربونات الخاصة بها في المياه التابعة لليونان وقبرص، مما استعدى هذين البلدين وغيرهما في المنطقة. وانتقد وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، موافقا في ذلك دبلوماسيين اوروبيين اخرين، عمليات الحفر التركية ووصفها بأنها «عمليات استفزازية» وأضاف بأنها تضر بالعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
وتثير عمليات الحفر قضية السيادة في جزيرة قبرص المقسمة منذ الغزو التركي عام 1974. وقد استخدمت تركيا السيادة المفترضة لما يسمى بجمهورية شمالي قبرص التركية، وهي دولة لا تعترف بها سوى تركيا، في محاولة لإضفاء الشرعية على استكشافها للطاقة. وقد أدان الاتحاد الاوروبي تحركات أنقرة قبالة الجزيرة وفرض عقوبات عليها، انطلاقا من أن قبرص (المعترف بها دوليا) واليونان من أعضائه. وحتى اليوم، استخدمت تركيا سفنا حربية وطائرات مسيرة لحماية السفن التي تقوم بعمليات البحث والحفر، مما يضيف بعدا عسكريا إلى التموضع التركي. وفي وقت سابق من هذا العام، أرسلت فرنسا سفنا حربية إلى شرق البحر المتوسط، كما أن الطائرات التركية تنتهك المجال الجوي اليوناني بشكل روتيني.
وليست قبرص واليونان ساحتي الصراع الوحيدتين في حوض البحر الأبيض المتوسط، إذ يتصاعد النزاع حول الغاز الطبيعي في المنطقة بالتزامن مع الحرب الأهلية الطاحنة في ليبيا. وفي العام الماضي، وقعت تركيا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، ومقرها طرابلس، مع رسم خريطة لمنطقة اقتصادية حصرية تمتد بين الساحل الجنوبي لتركيا والشاطئ الشمالي لليبيا. وتستثمر هذه الخطوة في الانقسام الواقع بين حكومة الوفاق الوطني ومجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقرا له، والذي يدعم زعيم الحرب الجنرال خليفة حفتر ولا يعترف بـ «حكومة الوفاق الوطني» أو الاتفاق الذي عقد مع تركيا. وسيتعين على خط أنابيب الغاز «إيست مد» عبور المنطقة التي رسمتها تركيا وليبيا، مما يعني أنه يتنافى مع اتفاق ترسيم الحدود البحرية التركية الليبية. وفضلا عن أطراف اتفاق «إيست مد»، فقد استفزّ الاتفاق التركي الليبي مصر، التي وصفته بأنه غير قانوني. ومؤخرا، وافق البرلمان المصري على نشر القوات المصرية المسلحة خارج حدود مصر بهدف محاربة «الجماعات الإرهابية» و«الميليشيات»، في إشارة إلى ليبيا. وإذا نشرت مصر قواتها في ليبيا، فستعزز القاهرة بذلك تحالف الدول الذي يضم شراكات غريبة وغير متوقعة مثل روسيا (من خلال مجموعة فاغنر شبه العسكرية)، والإمارات العربية المتحدة، وفرنسا التي تدعم حفتر والحكومة التي تتخذ من طبرق مقرا لها. وفي حين لم يحصل أي انتشار بعد، فإن مثل هذه الخطوة من شأنها أن تمثل تصعيدا كبيرا في الصراع، وستزيد من عسكرة الأجواء المتوترة منذ فترة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وأخيرا، فإن لكل هذه القضايا المتداخلة تداعيات مقلقة على الناتو الذي يتعرض أعضاؤه لضغوط شديدة تتمثل في الاستفزازات الروسية لبعض دوله، وتقلّب الإدارة الأمريكية بين عزل نفسها وبين العداء الخالص. وقد وجدت فرنسا واليونان وقبرص من جهة وتركيا من جهة أخرى أنفسها على طرفي نقيض في قضية التنقيب عن الغاز الطبيعي والحرب الأهلية الليبية. وفي حزيران / يونيو، أدى حادث بين فرقاطة فرنسية وقافلة تركية قبالة سواحل ليبيا إلى نزاع بين البلدين خلال اجتماع لحلف الناتو، مما أدى إلى تأجيج التوترات التي لم تجد حلا بعد. بينما بقيت الولايات المتحدة على مسافة من النزاعات المحيطة بـليبيا في السنوات الأخيرة مع استمرار تفاقم الانقسامات داخل الحلف. والسؤال الأساسي الذي سيظل مطروحا لفترة طويلة هو: كيف ستحتوي إدارة حلف الناتو المنافسة الساخنة في مجال الطاقة والمصالح الجيوسياسية، في ظل تخلي الولايات المتحدة عن دورها القيادي التقليدي وما يترتب على ذلك من تداعيات خطيرة على الأمن الدولي.