أوّل الكلام آخره:
- تكافح فرنسا من أجل الارتقاء إلى مستوى مبادئها الراسخة وهي تواجه الاضطرابات الداخلية ومجموعة من التحديات الصعبة في السياسة الخارجية.
- تسعى فرنسا إلى تمرير قوانين مثيرة للجدل لمواجهة «الانفصالية الإسلامية»، ينظر إليها الكثيرون على أنها تمييزية تجاه السكان المسلمين في فرنسا.
- على الصعيد المحلي، واجهت فرنسا عدة هجمات إرهابية نفذها «الجهاديون»، فضلا عن تظاهرات «أصحاب السترات الصفراء» وغيرها من التظاهرات المتعلقة بالتغييرات المقترحة لنظام المعاشات التقاعدية في فرنسا.
- إن إلقاء الخطابات على المواطنين حول أهمية «القيم الفرنسية» مع تكريم قادة مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي ينظر إليه الكثيرون على أنه لا يعبأ كثيرا بحقوق الإنسان، يشكل مثالا صارخا على ازدواج المعايير.
ظهرت المبادئ التأسيسية لفرنسا الحديثة وهي «حرية، مساواة، أخوة» خلال الثورة الفرنسية ولا تزال حتى اليوم شعار الجمهورية. ولكن فرنسا اليوم، في ظل التعامل مع الاضطرابات الداخلية وتحديات السياسة الخارجية ذلك، تجد صعوبات جمّة في المحافظة على هذه القيم التأسيسية. وقد اشتبكت فرنسا علنا مع تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان على وجه الخصوص، حول قضايا السياسة الخارجية في ليبيا وشرق البحر الأبيض المتوسط. وسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى اكتساب ثقل يوازن أنقرة من خلال الاعتماد أكثر على القاهرة إلى درجة تكريم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، المتهم عالميا بانتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، ومنحه وسام جوقة الشرف الوطني، وهي جائزة فرنسا المرموقة. وباختصار، يبدو أن السياسة الخارجية الفرنسية تتعارض مع ما تبشر به الحكومة محليا إذ تحث مواطنيها على تبني «القيم الفرنسية»، فهي على ما يبدو تفشل في الارتقاء إلى مستوى هذه القيم في تعاملها مع الدول الأخرى. وفي عهد ماكرون، أصبحت فرنسا أكثر انخراطا على الساحة الدولية، حيث اضطلعت بدور نشط في الحرب في ليبيا، والنزاعات المستمرة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفي مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء الساحل وأجزاء أخرى من إفريقيا. كما تأتي إعادة تأكيد ماكرون على الهوية الفرنسية والنفوذ في الخارج في أعقاب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي رأت فيه فرنسا فرصة لتعزيز مكانتها القيادية في الاتحاد الأوروبي.
وعلى الصعيد المحلي، تعاملت فرنسا مع تظاهرات «أصحاب السترات الصفراء»، ومع المظاهرات المتعلقة بالجهود الرامية إلى إصلاح نظام المعاشات التقاعدية في البلاد، ومع الهجمات الإرهابية المتكررة، فضلا عن المحاولات المحبطة منها، المرتبطة بالأيديولوجية السلفية الجهادية. وفي الأسبوع الماضي فقط، اعتقلت السلطات الفرنسية أيضا العديد من الأفراد في غارات شنّتها في باريس وتولوز ودوردوني واتهمتهم بالتخطيط لهجمات إرهابية يسارية. ويبدو أن زعيم الخليّة اليسارية كان قد سافر إلى سوريا في مرحلة ما للقتال إلى جانب القوات الكردية، مما أثار المزيد من التساؤلات حول تأثير المقاتلين الأجانب العائدين إلى ديارهم أو المنتقلين إلى دول ثالثة. وبشكل عام، تواجه فرنسا اضطرابات داخلية يثيرها أفراد وجماعات من مختلف ألوان الطيف الأيديولوجي، على الرغم من أن التهديد الأكثر أهمية بلا شك كان ولا يزال التهديد الذي يشكله الجهاديون السلفيون. وفي عدة حالات، أدى رد الحكومة الفرنسية على الاضطرابات العامة إلى تفاقم الشعور بالظلم. وفي أواخر تشرين الثاني / نوفمبر، هزت الاحتجاجات البلاد بعد محاولة الحكومة تمرير قانون أمني جديد من شأنه تقييد حرية تصوير وجوه عناصر الشرطة. كما شملت التدابير الأخيرة قوانين جديدة تجعل من غير القانوني لأي شخص تهديد موظفي القطاع العام عبر الإنترنت، مما يحظر بشكل فعال بعض خطابات الكراهية على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد جاء هذا التجريم الجنائي الجديد بمثابة رد على قطع إرهابي رأس أستاذه صموئيل باتي غاضبا من عرضه رسوما كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد على طلابه.
وتحركت فرنسا مؤخرا لتمرير قوانين تواجه «الانفصالية» تجعل من غير القانوني لأي شخص الضغط على الموظفين العموميين في فرنسا كي يحيدوا عن القيم العلمانية الفرنسية لصالح المبادئ الدينية أو الأيديولوجية. ومما لا شك فيه أن هذا القانون مثير للجدل إلى حد كبير حتى أن الكثير من الفرنسيين ينظرون إليه على أنه تمييزي تجاه السكان المسلمين في فرنسا الذين يمثلون تقريبا 10 % من المجتمع الفرنسي، أي ما يقارب ستة ملايين وهو العدد الأكبر في أوروبا. ومن المتوقع مناقشة التشريع في غضون الأسابيع القليلة المقبلة في البرلمان الفرنسي. ويسعى المسؤولون الحكوميون الفرنسيون وصانعو السياسات إلى اعتماد تدابير تدعم علمانية الدولة. ويقول العديد من النخب السياسية الفرنسية إن بعض المسلمين يقوّضون العلمانية بسعيهم إلى وضع مجموعة موازية من القواعد تعارض القيم الفرنسية التقليدية. وقد شاعت وجهة النظر هذه بين شرائح واسعة من السكان الفرنسيين، وكما تظهر مبادرات ماكرون السياسية الأخيرة، فإن كفة السياسة الداخلية الفرنسية بدأت تميل أكثر تجاه اليمين. ويجد العديد من المسلمين أن القوانين تحمل معايير مزدوجة ملحوظة، إذ يشعرون بأن الأديان الأخرى، ومنها الكاثوليكية، لن تخضع لنفس السياسات.
وقد وصف العديد من النقاد المحليين والدوليين ما يسمى بالتشريعات المواجهة لـ«الانفصالية» بأنها قاسية وتحمل نتائج عكسية. وردا على ذلك، انتقد أردوغان بشدة ماكرون، لدرجة أنه حث الدول الأخرى على مقاطعة البضائع الفرنسية. وهذا يبدو غريبا في ظل السكوت عن تزايد قمع المجتمعات المسلمة في دول أخرى، ومنها إقليم شينجيانغ الصيني على سبيل المثال. وقد وصف سام براونباك، المبعوث الأمريكي للحرية الدينية الدولية، القانون الفرنسي الجديد بأنه «ثقيل» على عكس العديد من المشرعين الفرنسيين الذين وصفوه بأنه قانون يهدف إلى حماية فرنسا من تعديات الأصولية الدينية. وسيتعامل القانون مباشرة مع قضايا مثل التعليم من المنزل، وتسجيل دور العبادة لدى الدولة، والعديد من القضايا الأخرى التي تتناقض فيها القيم الفرنسية والممارسات الدينية. ولكن فرنسا إذا أرادت حقا أن تكبح مشاعر الظلم المتأصلة محليا، فإن عليها أن تبتعد عن النفاق. إن إلقاء المحاضرات على المواطنين حول أهمية الحرية في الوقت الذي تكرّم فيه الدولة قادة مثيرين للجدل مثل السيسي من أجل المساعدة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية هو مثال صارخ على المعايير المزدوجة للدولة.