أوّل الكلام آخره:
- كانت محاكمة أحمد الفقي العضو السابق في جماعة أنصار الدين أبرز محاكمات المتشددين المتهمين بارتكاب جرائم حرب مرتبطة بالنزاعات التي دارت بين عامي 2012 و2013 في مالي، لكن هذه المحاكمات انقطعت منذ سنة 2017.
- أقدمت جماعة أنصار الإسلام والمسلمين، وهي ائتلاف مكون من عدة جماعات خلَف جماعة أنصار الدين، على ارتكاب فظائع كثيرة شملت مذابح عدة فضلا عن عمليات خطف للرهائن، وكذا فعل خصمها تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى.
- إذا أريد للنزاع في شمال مالي أن ينتهي فسيلزم إدخال شكل من أشكال العدالة التصالحية أو آلية ما من آليات حل النزاعات.
- من مفارقات محاكمة الفقي أنه حوكم لتدميره الأضرحة الصوفية المقدسة، بينما لم يحاكم أي شخص على جرائمه تجاه المدنيين خلال الفترة بين عامي 2012 و2013.
بين عامي 2012 و2013 كانت جماعة أنصار الدين إحدى الجماعات المتشددة التي احتلت شمال مالي إلى أن تمكن تدخل عسكري إقليمي بقيادة فرنسا من استعادة المنطقة من أنصار الدين والجماعات الجهادية المتحالفة معها. وقد تضمن هذا التحالف الجهادي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحليف محلي آخر وهو جماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا وهي حركة عربية القوام من سونغاي ومالي. وكان تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وكذلك حلفاؤه كحركة الوحدة والجهاد بقيادة مختار بلمختار، يركز هجماته على المصالح الغربية، بما في ذلك تنفيذ تفجيرات انتحارية في بعض منشآت التعدين الدولية في النيجر والجزائر. كما اشتهرت حركة الوحدة والجهاد الأقل تطورًا نسبيًا بتنفيذ عقوبات الشريعة القاسية على المدنيين في غاو بمالي، والذين كانوا في الغالب من الطبقات الاجتماعية المهمشة أكثر من كونهم من «منتهكي» الشريعة الإسلامية.
وعلى الرغم من هجمات القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وجماعة التوحيد والجهاد وانتهاكات حقوق الإنسان المتنوعة، فإن الجهادي الأبرز في شمال مالي الذي واجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب هو أحمد الفقي من جماعة أنصار الدين. وفي عام 2017 غُرّم الفقي في قضية نظرت فيها المحكمة الجنائية الدولية بأكثر من 3 ملايين دولار وحكم عليه بالسجن لمدة تسع سنوات لارتكابه جريمة حرب متمثلة في مهاجمة الأعيان المحمية بموجب المادة 8 (2) (هـ) (4) من نظام روما الأساسي. وكان قادة أنصار الدين في الغالب من المتمردين الانفصاليين الطوارق القدامى وكانوا على دراية بالسياسة المالية والدبلوماسية الدولية ولم يتبنوا الأيديولوجية الجهادية إلا في السنوات القليلة التي سبقت صراع 2012-2013. وقد كان التزامهم بأيديولوجيتهم الجديدة هذه عن قناعة، وكان بتأثير من جماعة التبليغ وهي جماعة دينية توصف بالتزمت ومن دعاة سلفيين آخرين. ولكن كان لهذا الالتزام بعد براغماتي آخر، فقد كان وسيلتهم للحصول على دعم مباشر من تنظيم القاعدة الأكثر تطرفاً وذات الخبرة الطويلة. وقد كان أنصار الدين على وجه العموم أكثر تسامحا من جماعة التوحيد والجهاد، وكانوا يراعون إرشادات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لتجنب تنفير المدنيين. ومع ذلك، دمر الفقي وزملاؤه المقاتلون الذين خدموا في «المحكمة الإسلامية في تمبكتو» ما لا يقل عن عشرة أضرحة صوفية في شمال مالي، بدعوى أن بناء الأضرحة متلبّس بالشرك.
ومنذ عام 2017، اندمجت أنصار الدين جنبًا إلى جنب مع كتائب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في الساحل وفصائل جهادية أخرى في جماعة نصرة الإسلام والمسلمين الموالية للقاعدة. وقد حاولت هذه المجموعة، مثل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي سابقًا، أن تبقى أكثر تسامحا إلى حد ما من منافسها، أي تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى، الذي كثيرا ما أقدم على ذبح المدنيين الذين يُزعم أنهم كانوا يتعاونون مع الميليشيات المناهضة له، وشمل ذلك قتل 30 من أعضاء الميليشيات في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) في أدباد بالنيجر. كما قام تنظيم الدولة بتعذيب المدنيين المسلمين المتهمين بممارسات عدّها التنظيم ممارسات بدعية أو شركية. وفي حين أن تنظيم الدولة هو بلا شك أكثر وحشية من جماعة النصرة، فإن بعض التقارير الموثوقة تفيد أن جماعة النصرة هي الأخرى قد ارتكبت أعمالا فظيعة وانتهاكات وحشية لحقوق الإنسان. ولا تلجأ جماعة النصرة في الغالب إلى ذبح المدنيين لمجرد دعمهم الميليشيات المناهضة لها، ولكنها كثيرا ما تلجأ إلى شن الغزوات على ميليشيات دونسو العرقية، من بين ميليشيات أخرى، وتقتل الأفراد وتغنم أسلحتهم التي كثيرا ما تعرضها في مقاطع فيديو تنشر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. كما أن جماعة النصرة لم تتورع عن تدمير البنى التحتية الحيوية في مالي لمنع تحركات الميليشيات، واختطفت رهائن غربيين ومحليين، بما في ذلك الصحفي الفرنسي أوليفييه دوبوا الذي لا يزال في الاسر، والذي كان قد اختطف في مالي في وقت سابق من هذا العام وعرضته حركة النصرة في مقاطع فيديو.
ولعل إحدى مفارقات قضية الفقي هي أنه حوكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب تمس المواقع الصوفية المقدسة، لا بتهمة إيذاء المدنيين. وفي غضون ذلك، تواصل جماعته، أنصار الدين، التي أصبحت الآن إحدى مكونات جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، شن الهجمات وتعرقل استعادة السلام والاستقرار في مالي، فيما ارتكب مقاتلوها جرائم ضد المدنيين واستطاعوا الإفلات من الأسر. وفي غضون ذلك أيضا ارتكب تنظيم الدولة جرائم أكثر خطورة من جرائم جماعة النصرة. وعلى الرغم من كل ذلك، لم تجر سوى محاكمات بسيطة في مالي لمحاسبة المقاتلين أو الجنود الذين ارتكبوا انتهاكات لحقوق الإنسان. وإذا انتهى هذا الصراع في نهاية المطاف، فإن شكلا من أشكال العدالة التصالحية يجب أن يكون على رأس الأولويات. وربما يكون بإمكان علماء الدين أن يلعبوا دورا مهما في لجان المصالحة، ولا سيما من حافظ منهم على بعض خطوط الاتصال مع جماعة النصرة وتنظيم الدولة ومع القيادة السياسية في مالي، والتي تعاني حاليًا من الاضطرابات بعد الانقلاب الثاني في العام الماضي. ولكن إذا كانت مالي غير راغبة أو غير قادرة على مقاضاة الإرهابيين محليًا، فيجب أن يتم ذلك على مستوى أعلى، كأن تقاضيهم المحكمة الجنائية الدولية.