أوّل الكلام آخره
- تُعدّ مصر شريكاً أساسيّاً للولايات المتّحدة الأميركيّة في مجال تعزيز الاستقرار والسّلام في منطقة الشّرق الأوسط، وحليفاً أساسياً لها على مستوى الجهود المناوئة للجماعات الإسلاميّة المتطرّفة التي تنشط في المنطقة.
- أدّت حرب روسيا ضدّ أوكرانيا إلى تعقيد المشاكل البنيويّة والإدارة السيّئة التي يعاني منها الاقتصاد المصري منذ فترةٍ طويلة.
- في ظلّ التحدّيات الاقتصاديّة التي تواجهها مصر، حرصَ المسؤولون الأميركيّون على عدم ربط المساعدات الأميركيّة لمصر بتلميع سجلّها الحقوقي، مع استمرارهم في المطالبة بإنهاء القمع السّياسي.
- لطالما كانت دوَل الخليج في طليعة الدّوَل المانحة لمصر، لكنّ مساعداتها غالباً ما تكون أقلّ انتظاماً مقارنةً بتلك التي تقدّمها الولايات المتّحدة أو المؤسّسات الماليّة العالمية كصندوق النّقد الدولي.
ما زالت مصر تعد شريكاً محورياً للولايات المتّحدة في منطقة الشرق الأوسط و شمال إفريقيا. وما زالت القاهرة لاعباً رئيسيّاً في الأزمة الليبية بالإضافة الى دورها الهام في العملية السياسية في السودان و مشاركتها في التّحالف الذي تقوده المملكة العربيّة السعوديّة ضد جماعة الحوثي المدعومة من إيران في اليمن. بالإضافة إلى ذلك، صمدَت اتّفاقيّة السلام التي وقّعتها مصر مع إسرائيل عام 1979 على مدى أربعة عقود حافلة بالتقلّبات، وما زالت القاهرة جزءاً لا يتجزّأ من أيّ تسوية بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، لا سيّما في ظلّ الدّور المفصلي الذي لعبَته لمنع تفاقم النّزاع بين إسرائيل وحركة حماس الإسلاميّة التي تنشط في قطاع غزّة. وصرّح وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن بعد لقائه نظيره المصري سامح شكري في 30 يناير: “لطالما كانت مصر في طليعة الجهود المبذولة لمواجهة أكثر التحدّيات تعقيداً على مستوى العالم، وساهمَت في تعزيز السّلام والأمن والازدهار في المنطقة.” وانتقد الوزير بلينكن في تصريحاته السّجلّ الحقوقي لمصر، مُشدّداً على ضرورة إقرار الإصلاحات السياسيّة والحقوقيّة. ولطالما تعرّضَت حكومة الرّئيس المصري عبد الفتّاح السّيسي للانتقاد من المنظّمات الحقوقيّة الدوليّة والأميركيّة نتيجة ممارساتها القمعيّة التي تشمل السّجن، والتعذيب، والإخفاء القسري لمعارضيها ومنتقديها، بالإضافة إلى الرّقابة الإعلاميّة المشدّدة. وقد تجلَّت هذه الانتقادات بوضوح داخل الكونغرس الأميركي.
و يُدرك المسؤولون الأميركيّون أنّ الحرب في أوكرانيا قد أرخَت بظلالها على الجهود المتواصلة – والمتعثّرة – التي تبذلها الحكومة المصريّة لتنمية اقتصادها، والارتقاء بمستوى المعيشة، والحدّ من الفقر، والحفاظ على استقرار الأسعار. وتعتمد مصر بشكلٍ كبير على الواردات الغذائيّة، إذ تُعَدّ المستورِد الأكبر للقمح في العالم، وتستورد 85% من احتياجاتها من روسيا وأوكرانيا. وقد تسبّبَ تعثُّر الواردات الزّراعيّة بارتفاع أسعار السّلع الغذائيّة لتصبح خارج متناول المواطنين المصريّين الأكثر فقراً، كما شهِدَت أسعار المعدّات الصناعيّة ارتفاعاً حادّاً هي الأخرى. وبلغَت خسائر القطاع السّياحي في مصر مليارات الدّولارات نتيجة الحرب في أوكرانيا، لا سيّما وأنّ الرّوس والأوكرانيّين كانوا يشكّلون أكثر من 30% من السيّاح في الأعوام الأخيرة. كما فقدَ الجنيه المصري نسبةً كبيرة من قيمته مقابل الدولار الأميركي نتيجة اضطرار الحكومة المصريّة لتخفيض قيمة عملتها الوطنيّة مرّتين منذ شهر فبراير 2022. وسعى الرّئيس السّيسي لإبعاد اللّوم عن نفسه في محاولةٍ منه لتلافي اشتعال الاضطرابات السياسيّة نتيجة المصاعب الاقتصاديّة الحادّة، وصرّح في 6 يناير متوجّهاً للشّعب المصري: “لم ندخل في حروب جازفنا فيها بقدرات الدّولة المصريّة ومستقبلها… ولم تتسبّب مصر بهذه الظّروف.” لم تتضمّن تصريحات الرّئيس السّيسي أيّ إشارة إلى الإدارة الاقتصاديّة السيّئة والفساد باعتبارهما من العوامل التي أجّجَت الأزمة الاقتصاديّة. بموازاة ذلك، سعت حكومة السّيسي لترجمة اهتمامها بالمحنة التي يعيشها الشعب المصري من خلال افتتاح عشرات المحال التجاريّة لبيع السّلع الغذائيّة بأسعارٍ مُخفّضة، وزيادة الدّعم على المواد الغذائيّة لعشرات ملايين المواطنين المسجّلين في منظومة الدّعم التّمويني للسّلع الغذائيّة، رغم أنّ الخبراء الاقتصاديّين نوّهوا إلى ضرورة تخفيض الدّعم الغذائي باعتباره خطوةً أساسيّة لتحقيق الإصلاحات الاقتصاديّة البنيويّة.
وتشهد حقول الغاز الطبيعي المصريّة الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسّط نموًّا مطّرداً، ما حقّق للبلاد عام 2022 عائداتٍ فاقت قيمتها 8 مليارات دولار. ومع ذلك، استنزفَت فواتير الاستيراد الهائلة الأرباح التي نتجت عن مصدر العائدات الجديد نسبيًا، وقضت على طموح الدولة المصريّة بأن يكون بحدّ ذاته مصدرًا يحقّق نموًّا اقتصاديًا مستدامًا سريع الوتيرة.
وأثارت المصاعب الاقتصادية التي تتخبّط بها مصر المناقشات على المستويين الإقليمي والعالمي حول الترتيبات المؤسساتية والثنائية التي من شأنها مساعدة القاهرة على التعامل مع الأزمة. وفي هذا الإطار، أبرمَت مصر منتصف شهر ديسمبر الماضي اتفاقًا مع صندوق النقد الدولي يهدف إلى المساهمة في تثبيت استقرار الاقتصاد المصري وتسهيل الإصلاحات الأساسيّة وينصّ على إقراض الحكومة المصريّة مبلغًا وقدره ثلاثة مليارات دولار تقريبًا. بالرّغم من ذلك، يؤكّد بعض المراقبين في الدول الخليجيّة أنّ على هذه الأخيرة بذل جهودٍ أكبر لتجنّب اعتماد مصر على دول الغرب أو المؤسّسات التي تهيمن عليها، ومنها صندوق النقد الدولي. وقد رفض قادة الخليج هذه الانتقادات مؤكّدين أنّهم لطالما كانوا في طليعة الجهات المانحة للقاهرة. وفي شهر مارس 2022، مدّت المملكة العربية السعودية مصر بقرض ائتماني وقدره 5 مليارات دولار أميركي لمساعدتها على إدارة التداعيات الاقتصادية السلبيّة الناجمة عن غزو روسيا لأوكرانيا، وهو مبلغ يُضاف إلى عشرات المليارات التي وهبتها أو أقرضتها دول الخليج لمصر على مدى العقد الماضي. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المساعدات الخليجية لمصر غالبًا ما تكون أقلّ انتظامًا ومشروطة بتعاون هذه الأخيرة مع دول الخليج في مواضيع مفصليّة مثل محاربة الحوثيين في اليمن، واستهداف الحركات الإسلامية، بالإضافة إلى مواجهة إيران وحلفائها في المنطقة.
وتُعَدّ الولايات المتحدة الأميركية مصدر تمويل رئيس آخر لمصر التي تعاني من ضائقة اقتصادية، وقد اطّلعت بهذا الدّور منذ ابرام اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. وتُعتبر المساعدات الأميركية لمصر أكثر انتظامًا من المساعدات الخليجية، إذ أنّها تستند وبشكلٍ كبير إلى معادلة نسبية لتوزيع المساعدات الأميركية على كلّ من مصر وإسرائيل عقب اتفاقية السلام بين الدولتين. ومع ذلك، سعى الكونغرس الأميركي بصورةٍ متزايدة إلى فرض شروطٍ على مصر تقضي بتحسين سجلّها الحقوقي قبل حصولها على المساعدات. وفي سبتمبر الماضي، حجب مسؤولون أميركيون مساعدات عسكرية لمصر بقيمة 130 مليون دولار أميركي -أي ما يُعادل 10% من إجمالي المساعدات السنويّة المخصّصة لها – بسبب فشلها في تنفيذ بعض الشروط المتّصلة بحقوق الإنسان والمنصوص عليها في القانون الأميركي. وفي تفصيلٍ يعكس اعتماد الولايات المتحدة الأميركية على مصر لتعزيز الاستقرار في المنطقة، لم يؤثّر هذا الحجب على معظم المساعدات العسكريّة أو تلك المخصّصة لـ تمويل جهود مكافحة الإرهاب، وشكلّ نصف قيمة المبلغ الذي طالب نشطاء حقوقيّون باقتطاعه.
وفي إشارة واضحة إلى الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها مصر حاليًا، قلّل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من أهميّة التهديدات الإضافية التي تقضي بربط المساعدات الاقتصادية الأميركية لمصر بمواضيع حقوق الإنسان، وذلك خلال زيارته إلى مصر في أواخر يناير الماضي. وفي هذا الإطار، وزّعت وزارة الخارجية الأميركية صحيفة وقائع قُبيل زيارة بلينكن تُفصّل الكثير من المبادرات الأميركية الجديدة المهمّة لمساعدة مصر على إدارة أزمتها الإقتصادية. وكان ملفتًا تخصيص الولايات المتحدة الأميركية استثمارًا جديدًا بقيمة 50 مليون دولار أميركي لدعم المزارعين في مصر، ما يُشكّل إضافة إلى مبلغ الـ 1,4 مليار دولار الذي قدّمته الولايات المتحدة لدعم القطاع الزراعي في مصر خلال العقود الماضية. وأشار مسؤولون أميركيوّن إلى موافقة البلدين على إنشاء لجنة اقتصادية مشتركة لتعزيز التعاون في المواضيع الاقتصاديّة والتجاريّة كافّة. ومن الواضح أنّ مصر لا تعاني من نقصٍ في عدد المانحين والمقرضين، ومع ذلك، يبقى من غير الواضح إن كانت حكومة الرئيس السيسي مستعدّة لتنفيذ الإصلاحات الأساسية التي ستسمح للبلاد باجتذاب المزيد من الاستثمارات في القطاع الخاصّ أو تحقيق الاستفادة القصوى من العائدات الإضافية التي يوفّرها تطوير احتياطي الغاز الطبيعي.