أوّل الكلام آخره:
- يواجه قادة مصر الأزمات الإقليمية المحيطة بهم بالتدخل المباشر حينا وبالعمل الدبلوماسي حينا، على أن كل أزمة من هذه الأزمات تهدد بإفساد السياسة الداخلية للبلاد.
- تدخلت الحكومة عسكريا لمواجهة الحركات الإسلامية الإقليمية ولحماية المصالح الحيوية لمصر.
- من أجل تخفيف حدة النزاعات الإقليمية، سعت مصر إلى تنحية الخلافات مع العديد من البلدان في المنطقة، بما في ذلك خلافاتها مع تركيا وقطر.
- تضع رواسب الغاز البحرية في مصر البلاد في وضع يمكنها من المساعدة في تخفيف الأزمة الاقتصادية في لبنان.
شهدت مصر استقرارًا داخليًا نسبيًا – تحقق إلى حد كبير من خلال القمع الاستبدادي لنشطاء المعارضة والمجتمع المدني – منذ الانقلاب العسكري عام 2013، بقيادة القائد العسكري آنذاك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، الذي أطاح بالحكومة المنتخبة التي كان يقودها الإخوان المسلمون بعد انتفاضة الربيع العربي عام 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس حسني مبارك. وقد عملت الحكومة المصرية تحت قيادة السيسي بشكل منهجي على تهميش المعارضة المحلية، وغالبًا ما وظّفت خطاب مكافحة الإرهاب للحد من الحقوق المدنية في التجمع والتعبير، من خلال تمديد حالة الطوارئ والاعتقالات التعسفية. أما على جبهة السياسة الخارجية، فتحتدم الصراعات وينعدم الاستقرار في أغلب البلدان المحيطة بمصر، ويمكن لأي منها أن يمتد إلى الأراضي المصرية ويؤثر في سياساتها الداخلية. وفضلا عن ذلك، تواصل القوات المصرية محاربة تمرد منخفض المستوى في شبه جزيرة سيناء يقوده عناصر مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وقد تدخلت مصر شرقا وغربا في محاولة لاستعادة الاستقرار، مدركةً أن مصالحها الحيوية مهددة بالصراعات القائمة. ففي ليبيا المجاورة، وبالشراكة مع الإمارات العربية المتحدة وروسيا، دعمت مصر عسكريًا رجل شرق ليبيا القوي خليفة حفتر ليكون حصنا ضد الجماعات الإسلامية المتشددة وثقلا موازنا للقادة المدعومين من الأمم المتحدة في غرب ليبيا. وكانت مصر تأمل في أن تؤدي الانتخابات الرئاسية الليبية التي كانت ستُجرى في 24 كانون الأوّل (ديسمبر) إلى استقرار البلاد، لكن الانتخابات تأجلت، مما أدى إلى استمرار حالة الانتظار. أما عبر البحر الأحمر في اليمن، وعلى الرغم من تاريخ التدخل الفاشل في الحرب الأهلية في الستينيات، نشرت مصر بعض القوات ضمن التحالف العربي الذي تقوده السعودية والذي يحاول هزيمة حركة أنصار الله (الحوثيين) الشيعية الزيدية المدعومة من إيران والتي أطاحت بحكومة الجمهورية اليمنية في صنعاء عام 2014. وكان الدور الرئيسي لمصر في التحالف هو إجراء عمليات بحرية لتأمين مضيق باب المندب، وهو ممر تجاري حيوي. وكانت الهجمات المتكررة للحوثيين على ناقلات النفط الدولية والسفن الحربية في المضيق قد هددت الإيرادات المصرية من قناة السويس. على أن مصر، في الوقت نفسه، دعمت أيضًا العمل الدبلوماسي لتحقيق وقف لإطلاق النار من شأنه تهدئة التوترات والسماح بحل سياسي تفاوضي للصراع.
أما في المناطق التي لم تتدخل فيها مصر بشكل مباشر، فقد كثف قادة مصر الجهود الدبلوماسية لاستعادة الاستقرار وتهدئة التوترات. ففي سوريا، لم تتدخل مصر في الحرب الأهلية، ولكن في أيلول (سبتمبر) 2021، عقدت مصر أول اجتماع رفيع المستوى (على مستوى وزيري الخارجية) مع سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، في اعتراف ضمني بأن الرئيس بشار الأسد قد هزم التمرد المسلح وأن سوريا ستحتاج إلى مساعدة إقليمية لإعادة الإعمار. وفي فلسطين، وعلى الرغم من أن نفوذها على الحركة الوطنية الفلسطينية قد تضاءل بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ظلت مصر منخرطة في الترويج لتسوية إسرائيلية فلسطينية. ومن خلال تحكمها ببعض طرق الاستيراد والتصدير في قطاع غزة، عملت القاهرة مع إسرائيل للضغط على حماس، وهي فرع من جماعة الإخوان المسلمين كما أنها تمثل السلطة الفعلية في القطاع. وتأمل مصر وإسرائيل – التي تعيش مصر معها في سلام منذ أكثر من 40 عامًا – إجبار حماس على إعادة النظر في معارضتها للتسوية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد توسطت مصر في وقف إطلاق النار في آخر اشتباك مسلح كبير بين إسرائيل وحماس في أيار (مايو) 2021 وقدمت بعد ذلك مساعدات لإعادة إعمار قطاع غزة في محاولة لاستعادة النفوذ المصري. أما في السودان، وهو البلد الذي كثيرا ما ينسحب تزعزع الاستقرار فيه على جنوبي مصر، فقد سعت القاهرة للتوسط في حل سياسي بين القادة السياسيين من عسكريين ومدنيين في أعقاب انقلاب تشرين الأول (أكتوبر) الذي علق أعمال الحكومة الانتقالية المدنية. ومع استقالة رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك أمس، فقد تسعى مصر إلى مزيد من المشاركة في الأحداث القادمة. وعلى الرغم من أن العديد من المراقبين توقعوا تعاطف حكومة السيسي مع الانقلاب، إلا أن الدبلوماسية المصرية ساهمت في اتفاق 21 تشرين الثاني (نوفمبر) لمحاولة إعادة تشكيل حكومة توافقية جديدة وإعادة الانتقال الديمقراطي في السودان إلى مساره الصحيح، على أن ذلك يبدو اليوم أمرا صعبا مع استقالة حمدوك الأخيرة.
أما بعيدا عن حدود مصر المباشرة، فقد سعت القاهرة إلى إصلاح العلاقات مع الخصوم الإقليميين واستخدام موارد الطاقة النامية لتوسيع نفوذها. وكانت حكومة السيسي قد انضمت عام 2017 إلى حلفائها الخليجيين في السعودية والإمارات لمحاولة عزل قطر بسبب سياساتها الخارجية المستقلة. ومن الأسباب التي دفعت السيسي إلى ذلك، وإن لم يكن ذلك السبب الوحيد، استياؤه من دعم قطر لزعيم الإخوان المسلمين محمد مرسي خلال رئاسته القصيرة لمصر بين عامي 2012 و2013. ومع ذلك، وبالتنسيق مع حلفاء الخليج، فقد تصالحت مصر مع قطر في أوائل عام 2021. ورحبت القاهرة أيضًا بالخطوات التي اتخذها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة بناء العلاقات على امتداد العام الفائت. وكانت العلاقات المصرية التركية مشوبة بالتوتر الشديد لعدة سنوات بسبب دعم كل منهما لفصائل متنافسة في ليبيا. ومن ناحية أخرى، فإن تطوير مصر لمواردها من الغاز الطبيعي البحري قد وضع البلاد في وضع جيد للمساعدة في تخفيف الأزمة الاقتصادية في لبنان من خلال المشاركة في مشروع تدعمه الولايات المتحدة والبنك الدولي لتزويد لبنان بالغاز عبر خط أنابيب يمر عبر الأردن وسوريا. وتطالب القاهرة بضمانات من واشنطن بأن مشاركتها في المشروع لن تخضعها لعقوبات بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين الذي يعاقب على التعامل مع كيانات الطاقة السورية المملوكة للدولة، ولكن جميع الأطراف تهدف إلى حل المشكلات المتبقية وبدء تسليم الغاز في أوائل هذا العام. وقد تعجل صفقة الغاز هذه، إلى جانب مجموعة واسعة من الأنشطة والعمل الدبلوماسي المصري في المنطقة، في تحقيق هدف السيسي المتمثل في استعادة القاهرة موقعها السابق الذي كان يمكنها بوصفها الدولة العربية الأكبر (من حيث عدد السكان) من التأثير في الأحداث في جميع أنحاء المنطقة. على أن النزاعات القائمة في المنطقة لم تصل إلى خواتيمها بعد، وهذا يجعل مصر عرضة للأحداث والتطورات الخارجة عن سيطرتها.