أوّل الكلام آخره:
- لا شك أن آفاق تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة قد باتت في مهب الريح بعد قرار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر سحب كتلته الكبيرة من البرلمان، وذلك بعد ثمانية أشهر من الانتخابات الوطنية في العراق.
- إن الاستقالات ستجعل الفصائل الموالية لإيران تتحكم بتركيبة الحكومة المقبلة.
- قد يؤدي تحرك الصدر إلى اضطرابات واسعة النطاق أو إلى الدعوة إلى انتخابات جديدة.
- ليس للولايات المتحدة إلا قدر بسيط من القدرة على التأثير في مجريات الصراع على السلطة في العراق.
في 12 حزيران (يونيو)، وبعد قرابة ثمانية أشهر من الجهود الفاشلة لتشكيل الحكومة، أقر رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر بأن فوز فصيله المدوي في الانتخابات الوطنية في تشرين الأول (أكتوبر) 2021 في العراق لم يمكّنه من تشكيل الحكومة التي كان يتصورها، وأمر نواب كتلة التيار الصدري (سائرون) البالغ عددهم 73 عضوا في البرلمان العراقي بالاستقالة الجماعية. ويشير الانسحاب إلى أن الصدر فشل في حشد الدعم الكافي من العرب السنة والفصائل الكردية في البرلمان لتحقيق أغلبية الثلثين (220) التي كان يأمل فيها. وعرّف الصدر حكومة الأغلبية بأنها الحكومة التي تضم جميع الطوائف الرئيسية، لا تلك التي تهمش المكونات غير الشيعية لصالح تكتل الشيعة في ائتلاف حاكم كما كان عليه الحال بعد سقوط صدام. ويرى الصدر أن الهيكل الحكومي الحالي قد مهد الطريق لاحتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ضد الفساد الرسمي وعدم فعالية الحكومة، كما أنه جعل للفصائل المدعومة من إيران، والمعروفة باسم الحشد الشعبي، نفوذًا كبيرًا. على أن هؤلاء النواب الموالين لإيران هم الذين تمكنوا، على الرغم من تكبدهم خسائر كبيرة في انتخابات تشرين الأول (أكتوبر)، من منع الصدريين من الحصول على أغلبية في البرلمان تمكنهم من تشكيل حكومتهم الخاصة. وزادت جهود الصدر تعقيدا بسبب الصراع الداخلي بين الفصيلين الكرديين الرئيسيين اللذين خالفا التقاليد المتبعة وقدما مرشحين منفصلين لمنصب الرئاسة الذي ينبغي أن يشغله كردي بحسب الأعراف القائمة.
ويترك الانسحاب خصوم الصدر في الحشد الشعبي وحزب رئيس الوزراء السابق نوري المالكي المنضوين جميعا في تحالف سياسي يُعرف باسم إطار التنسيق في وضع مؤاتٍ لتشكيل حكومة. وبموجب القانون العراقي، فإنه في حالة خلو مقعد نيابي، يتقدم المرشح الحاصل على ثاني أكبر عدد من الأصوات في الدائرة الانتخابية لملء الشاغر. واستنادا إلى النتائج التي قدمتها المفوضية العليا للانتخابات في العراق، فمن المرجح أن يذهب 50 من مقاعد التيار الصدري البالغ عددها 73 مقعدا إلى أعضاء الإطار. ويمكن هذا السيناريو إطار التنسيق من الاستحواذ على أكثر من 120 من أصل 329 مقعدًا في البرلمان العراقي، وهذا يجعله في موقف تفاوضي قوي يمكنه من إقناع الأحزاب الكردية والسنية بالانضمام إلى الحكومة لنيل الأغلبية، مما يسمح للإطار فعليًا بانتخاب مرشحيه المفضلين للرئاسة ورئاسة الوزراء. ومع ذلك، فإن نجاح الإطار غير مؤكد، بسبب ارتياب الكتل العربية السنية والكردية من التدخل الإيراني في الشؤون العراقية. وقد تطالب هذه الكتل بتنازلات كبيرة – مثل ضمانات بالتعيينات الوزارية المرغوبة – مقابل دعمها.
وإذا فشل إطار التنسيق في تشكيل حكومة، فإن المسار السياسي للعراق سيكتنفه الضباب. وقد اقترح بعض السياسيين العراقيين منح البرلمانيين المستقلين الفرصة لتشكيل حكومة يدعمها إطار التنسيق ويراقبها عن كثب. وطالب آخرون البرلمان العراقي بحل نفسه – وهي خطوة من شأنها أن تؤدي إلى انتخابات مبكرة قد لا تختلف نتائجها عن نتائج انتخابات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. ويقدر البعض أن الصدر قد يرسل أنصاره إلى الشوارع لإظهار التزامه بالحكم الديمقراطي وحكم الأغلبية، ولتقويض شرعية أي حكومة لا تضم التيار الصدري. وعلى الرغم من أن شعبية الصدر بين الشباب العراقيين تظل موضع أخذ ورد، لكنه أظهر قدرة حاذقة على حشد احتجاجات كبيرة لا يجمعها إلا الالتفاف حول شخصه. على أن استعراضًا شعبيًا للقوة من جانب الصدر يهدد بإثارة اضطرابات مدنية كبيرة وتجدد العنف السياسي. وأحد الخيارات المطروحة هو تشكيل حكومة انتقالية تتألف إلى حد كبير من المسؤولين الحاليين، بما في ذلك رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، إلى أن تتمكن جميع الفصائل الرئيسية من الاتفاق على مسار للمضي قدمًا لاختيار حكومة جديدة.
ويعقد الانسحاب الصدري السياسة الأمريكية في العراق، فالمسؤولون الأمريكيون يخشون من تمكن الجماعات المدعومة من إيران من تعزيز حضورها في السلطة لتنفيذ سياسات مواتية لإيران وضارة بمصالح الولايات المتحدة. ومع ذلك، لا يبدو أن لدى الدبلوماسيين الأمريكيين في بغداد أدوات قوة كافية لتوجيه العملية السياسية لصالح واشنطن. وكان المسؤولون الأمريكيون يفضلون أن يتمكن الصدر من تشكيل حكومة أغلبية، لكن قنواتهم المباشرة مع الصدر ضعيفة، فلم يتمكنوا من المساعدة في تحقيق هذه النتيجة. وإذا قام قادة إطار التنسيق بتشكيل حكومة، فمن المرجح أن يدعموا جهود طهران الدافعة نحو أن يتقدم العراق بطلب رسمي بمغادرة جميع الأفراد العسكريين الأمريكيين العراق؛ وليس من الواضح ما إذا كانت واشنطن ستعارض طلبًا كهذا بالانسحاب الكامل للعسكريين الأمريكيين البالغ عددهم 2500 فرد. وقد انتقلت الوحدة الأمريكية في العراق رسميًا إلى دور استشاري اعتبارًا من نهاية عام 2021، مما يشير إلى أن العراق لم يعد يعتمد على المساعدة الأمريكية لقمع مقاتلي تنظيم داعش الذين ما زالوا يعملون في المناطق النائية في العراق. ونظرًا لعدم قدرة الأمريكيين على هندسة النتيجة السياسية المفضلة لديهم في العراق، فمن المرجح أن يقبلوا أي نتيجة سياسية في العراق تحافظ على استقرار البلاد وتواصل دمجها في السياسة الإقليمية والنشاط الاقتصادي الإقليمي. إن التململ العراقي من نشاط إيران، والذي أصاب حتى بعض الفصائل العراقية المتحالفة مع إيران، قوى لدى العراقيين شعورهم القومي الرافض لمختلف أشكال السيطرة الأجنبية.