أوّل الكلام آخره:
- على مدى عقدين من الزمن، تابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجيش الأمريكي وهو يحارب المتمردين في العراق وأفغانستان. وهو يواجه الآن احتمال تورط القوات الروسية في مواجهة تمرد طويل الأمد في أوكرانيا.
- إذا تحولت أوكرانيا إلى ساحة تمرد، فسوف يختبر الروس قريبًا ما كانت الولايات المتحدة قد اختبرته في الشرق الأوسط وجنوب آسيا – على أن الوضع في أوكرانيا أكثر تقلبًا بكثير.
- الجيش الأوكراني أكثر قدرة من متمردي العراق وأفغانستان، كما أن دول الناتو تقدم لأوكرانيا كميات هائلة من الأسلحة المتطورة، بما في ذلك الطائرات بلا طيار والصواريخ المضادة للدبابات.
- فقد الجيش الروسي من قواته في الأسبوعين الأولين من الصراع في أوكرانيا عددا يفوق ما فقدته القوات الأمريكية على مدار عشرين عامًا في أفغانستان.
لما يقرب من عقدين من الزمن، تابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجيش الأمريكي وهو يخوض عمليات مكافحة التمرد في العراق وأفغانستان. وقد قتل جنود أمريكيون كثيرون وأصيب آخرون في تلك العمليات بسبب الكمائن والقنابل على جوانب الطرق وبسبب الهجمات الانتحارية، واستنزفهم رجال حرب العصابات الذين قاتلوا في إطار مجموعات من القوات غير النظامية ضمّت متمرّدين وإرهابيين أحيانا. وقد قيّدت هذه المواجهة في ساحتي صراع مفتوحتين معا حركة الولايات المتحدة، وحدّت من قدرتها على التعامل مع صعود المنافسين الأقوياء، ولا سيما الصين. وفي هذه الأثناء، كان بوتين يثبّت أقدامه، ولطالما نُظر إليه على أنه استراتيجي محنك، حتى عندما شن غزواته على جورجيا وشبه جزيرة القرم، وأرسل جيشه إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد حليف الكرملين منذ فترة طويلة. وفي سوريا عمل جنبًا إلى جنب مع حزب الله والمدربين والمستشارين الإيرانيين والقوات العسكرية السورية، وقصفت قواته الجوية مواقع المتمردين بلا رحمة، باتباع نفس استراتيجية الأرض المحروقة التي اعتمدتها في أوكرانيا، مما أوقع خسائر كبيرة في أرواح المدنيين وفي البنية التحتية الحيوية.
مع كل زلة أمريكية، كانت روسيا تنتهز الفرص لزيادة نفوذها في الخارج. ففي عهد بوتين، زادت روسيا من نفوذها في أمريكا اللاتينية، حيث عملت عن كثب مع رجل فنزويلا القوي نيكولاس مادورو. وفي ليبيا، دعمت روسيا أمير الحرب خليفة حفتر، حتى أنها أرسلت مرتزقة من مجموعة فاغنر للقتال إلى جانب الميليشيات الليبية. وحيثما ظهر فراغ في السلطة، بدا بوتين مستعدًا للانقضاض، رغم أنه تمكن في الغالب من تجنب التورط في صراعات مكلفة. لكن بعد مرور خمسة أسابيع على الغزو الروسي لأوكرانيا، ظهر فيها أداء الجيش الروسي ضعيفًا، يعتقد بعض المحللين أن الحرب قد تنتقل من صراع تقليدي إلى تمرد طويل الأمد في المستقبل القريب. وإذا تحقق ذلك، فستختبر روسيا قريبًا ما كانت الولايات المتحدة قد اختبرته سابقا في عملياتها في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، على أن الوضع في أوكرانيا أكثر تقلبًا بكثير.
ولا شك أن الجيش الأوكراني أكثر قدرة بكثير مما كان عليه متمردو العراق وأفغانستان، كما أن دول الناتو تقدم كميات هائلة من الأسلحة المتطورة لأوكرانيا، بما في ذلك الصواريخ المضادة للدبابات، وصواريخ ستينغر، والطائرات المسيرة وذخائرها. كما تقدم الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو دعمًا سريًا لأوكرانيا ولديها الآن مدربون ومستشارون في بولندا لتوطيد العلاقة. ولذلك فإن من غير المرجح أن تسعى موسكو للانخراط في حرب تقليدية أو غير تقليدية لفترة طويلة من الزمن. فيما يتعلق بالعديد والعتاد، فإن الانخراط في حرب طويلة الأمد غير متكافئة ضد الأوكرانيين أمر باهظ التكلفة بالنسبة للروس. إن أي «نصر» يتخيله الروس سيكون باهظ الثمن، حيث يتبع الأوكرانيون ببراعة استراتيجية الضربات البسيطة الكثيرة التي تحدث كثرتها أثرا قويا، مراهنين على استنزاف خصمهم الذي يفوقهم قوّة.
وقد فقد الجيش الروسي من قواته في الأسبوعين الأولين من الصراع في أوكرانيا أكثر مما فقدته القوات الأمريكية على مدار عشرين عامًا في أفغانستان. فقد قُتل ما يقدر بـ 2448 جنديًا أمريكيًا في أفغانستان على مدار عشرين عامًا، بينما تشير بعض التقديرات إلى أن روسيا قد فقدت حتى الآن ما بين 7000 و15000 جندي في القتال في أوكرانيا. كما فقد الروس أيضًا العديد من كبار الضباط، بما في ذلك عددا من الجنرالات الذين قُتلوا في ساحة المعركة. وبالنسبة لحلف شمال الأطلسي، يمثل خطأ بوتين الفادح فرصة نادرة لاستنزاف القوات الروسية وتقييد حرية روسيا في المناورة في الساحات المختلفة خارج حدودها الخارجية المباشرة. وقد استدعت روسيا بالفعل عددا كبيرا من مرتزقة مجموعة فاغنر من ليبيا ومالي وأماكن أخرى. كما أن روسيا، بالنظر إلى ضخامة التحدي الذي يواجه الجيش الروسي، تركز جميع مواردها حاليا على الصراع في أوكرانيا. وقد يتأثر الوجود الروسي في سوريا، وهو ما قد يفتح بدوره الباب أمام طهران لتوسيع نطاق نفوذها. ومن المؤكد أن روسيا قد شنت فيما مضى عمليات ناجحة لمكافحة التمرد في الشيشان وداغستان وأجزاء أخرى من القوقاز، لكن الوضع في أوكرانيا مختلف بشكل كبير. وما لم يعد بوتين النظر في غزوته المشؤومة لأوكرانيا، فقد يستنزف الجيش الروسي تماما في تمرد طويل الأمد ضد خصم حازم وقادر للغاية ومجهز تجهيزًا جيدًا.