أوّل الكلام آخره:
- من أجل الحد من انتشار وباء كورونا، اعتمدت الدول تكنولوجيات جديدة قادرة على رصد مواطنيها ومراقبتهم.
- ولا شكّ أنّ أغلب المواطنين على استعداد للتضحية بشيء من خصوصياتهم في سبيل المزيد من الأمن الموعود، إلا أنّ التكنولوجيات المؤقتة قد تصبح دائمة وجزءا من الحياة اليومية.
- تبرز مخاوف جدية من كيفية جمع الحكومات معلوماتها اليومية عن كل مواطن وتخزينها واستخدامها.
- في عالم ما بعد الوباء، لن يكون قلق الشركات والدول منصبّا على انتهاكات حقوق الإنسان، إنما سيزيد تركيزها على تأمين التكنولوجيا التي تراها ضرورية لتعزيز جمع البيانات وتزويدها بميزة تفاضلية تتفوق من خلالها على منافسيها وخصومها.
من أجل الحد من انتشار وباء كورونا، اعتمدت الدول تكنولوجيات جديدة قادرة على رصد مواطنيها ومراقبتهم. وقد استخدمت كل من كوريا الجنوبية وإسرائيل وسنغافورة بيانات الموقع ولقطات كاميرا الفيديو ومعلومات بطاقات الائتمان لمراقبة مواطنيها، وهي كلها إجراءات من برنامج تتبع الوباء. ولا شكّ أنّ أغلب المواطنين على استعداد للتضحية بشيء من خصوصياتهم في سبيل المزيد من الأمن الموعود، إلا أنّ التكنولوجيات المؤقتة قد تصبح دائمة وجزءا من الحياة اليومية. وقد تكون النتيجة مجمعا صناعيا للمراقبة، كالمجمع الصناعي العسكري، حيث تقوم شركات التكنولوجيا في القطاع الخاص بتصميم أحدث أدوات المراقبة وتوريدها للحكومات والشركات وحتى الأفراد.
وقد تتمثل المرحلة النهائية في دورة ذاتية الاستدامة لن يتاح مجال كبير للتشكيك بها أو التراجع عنها، ومن المرجح أن تصبح مؤسسة قائمة في حد ذاتها. على أن من المراقبين من يقول إن هذا السيناريو لم يعد أمرا مستقبليا بل بات واقعا ملموسا في أجزاء كثيرة من العالم. فمن خلال الهاتف الذكي مثلا، يتطوّع أغلب الناس ببثّ بياناتهم الشخصيّة. ومن السهل على كثير من الجهات الفاعلة الوصول إلى هذه المعلومات وبيانات الهواتف الذكية والأجهزة الأخرى الإضافية، من خلال مجموعة من أدوات القرصنة وغيرها من البرامج. وتسهم بعض المفاهيم الحديثة كمفهوم «إنترنت الأشياء» وكذلك الانتقال إلى ما يسمى «المدن الذكية» بتوفير حياة يومية أكثر راحة، ولكنها لا تخلو من نقاط ضعف جوهرية تعرّض البيانات الحساسة للخطر. كما تبرز مخاوف جدية من كيفية جمع الحكومات معلوماتها اليومية عن كل مواطن وتخزينها واستخدامها، وكيفية مشاركة الشركات للبيانات التي تجمعها مع الحكومات. فالدول لا تجمع البيانات عن مواطنيها فحسب، بل عن أي شخص يدخل حدودها، فالبيانات اليوم هي العملة الجديدة للجغرافيا السياسية.
وقد اعتمدت البلدان الاستبدادية تكنولوجيات جديدة لرصد تحركات مواطنيها. فمثلا، يراقب جهاز الأمن الداخلي في الصين مختلف قطاعات سكانه المحليين عن كثب باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي والقياسات الحيوية ومجموعة من الأدوات ذات التقنية العالية. وتركز الصين بشكل خاص على مراقبة سكانها من الإيغور، وكذلك سكان كازاخستان والأقليات المسلمة الأخرى في مقاطعة شينجيانغ في شمال غرب البلاد. كما تحتجز الصين أكثر من مليون مواطن من الإيغور في معسكرات الاعتقال. وتمتلك الصين اليوم أكثر من 200 مليون كاميرا مراقبة وتخطط لتتبع تحركات مواطنيها من خلال تقنية الذكاء الاصطناعي، فضلا عن رصد استخدام الإنترنت والسفر والاتصالات الشخصية لهم. وقد لا يقتصر اعتماد هذه الأساليب والتقنيات على البلدان الاستبدادية مثل الصين، بل من الممكن أن يصبح أمرا شائعا في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء. ومن خلال مبيعات شركة هواوي، غطت الصين بشكل أساسي مساحات كبيرة من آسيا الوسطى بتكنولوجيا المراقبة. في طشقند، عاصمة أوزبكستان، يجري اليوم تحديث ما يقارب 1000 كاميرا مراقبة بمساعدة هواوي لتمكين البلاد من «إدارة الشؤون السياسية إلكترونيا». وعليه، فإن تداعيات هذا الاتجاه وخيمة. وتعمل الصين على تطوير مراكز البيانات على امتداد المساحة المشمولة بمبادرة «الحزام والطريق».
وقد فرضت وزارة التجارة الأمريكية عقوبات على شركة تشجيانغ داهوا الصينية للتكنولوجيا المحدودة، وهي واحدة من أكبر الشركات المصنعة لكاميرات المراقبة في العالم، لدورها في تزويد الحزب الشيوعي الصيني بالتكنولوجيا التي استخدمت بعد ذلك لمراقبة سكان الإيغور والأقليات العرقية الأخرى واحتجازهم ومضايقتهم وسجنهم. ولا يطال الحظر الذي فرضته الحكومة الأمريكية على الشراء شركات القطاع الخاص الأمريكي، على الرغم من تنبيهها لهذه الشركات بضرورة الحذر. وعلى الرغم من هذا التحذير، أنفقت شركة أمازون مؤخرا 10 ملايين دولار لشراء كاميرات من داهوا وظيفتها قياس درجات حرارة موظفيها. كما قامت شركتا آي بي إم وكرايسلر بشراء كاميرات حرارية من الشركة نفسها. وفي عالم ما بعد الوباء، لن يكون قلق الشركات والدول منصبّا على انتهاكات حقوق الإنسان، إنما سيزيد تركيزها على تأمين التكنولوجيا التي تراها ضرورية لتعزيز جمع البيانات وتزويدها بميزة تفاضلية تتفوق من خلالها على منافسيها وخصومها.