أوّل الكلام آخره:
- قبل ثلاثة عقود، في أعقاب الحرب الباردة، بدا أن التعاون حل محل الصراع والمنافسة، أما اليوم فيبدو أننا قد عدنا إلى عصر المنافسة التي باتت تطبع بشكل متزايد المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية بطابعها.
- أدى ظهور كوفيد-19 إلى تعطيل الأنماط الاقتصادية السائدةوسلاسل التوريد والعلاقات الدولية والمتعددة الأطراف.
- على أن بعضا من أهم التحديات التي يواجهها عالمنا اليوم يتطلب التعاون، بما في ذلك قضايا الصحة العالمية وأزمة المناخ والنزاعات بين الدول والتجارة الدولية.
- بينما تتطلع الدول إلى إعادة بناء اقتصاداتها واستعادة المرونة وتجديد التحالفات، يجب على واشنطن ألا تغيّب عن بالها أهمية التعاون.
يقدم النظام الدولي اليوم العديد من الفرص للدول لاختيار التعاون بدلًا من المنافسة، على الرغم من أن كثيرا من القادة يختارون الصراع عوض التعاون. وهذا ينطبق على أصدقاء أمريكا وخصومها على حد سواء. وفي حين أنه بدا للجميع قبل ثلاثة عقود، في أعقاب نهاية الحرب الباردة، أن نهج التعاون قد انتصر على نهج المنافسة، نجد أنفسنا اليوم وقد تجدد الصراع وبات على نحو متزايد يطبع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية بطابعه. ومع اقتراب أمريكا من مفترق الطرق هذا، عليها أن تمضي بحذر. وقد بدت هذه الديناميكيات قبل عشرين عامًا فقط مختلفة جدًا بالنسبة للولايات المتحدة. فقد مرت أمريكا بعد الهجمات المأساوية في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 مباشرة بلحظة غير عادية من الوحدة الدولية والنوايا الحسنة. فقد وقفت البلدان والمجتمعات حول العالم مع أمريكا في مواجهة الإرهاب والمآسي الناجمة عنه. واتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إجراءات بالإجماع بعد وقت قصير من الهجمات. أما أقرب حلفاء واشنطن العسكريين في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) فقد فعّلوا المادة 5، وهي المتعلقة بالدفاع الجماعي، للمرة الأولى والوحيدة في تاريخ الحلف. وقد انضمت أكثر من 50 دولة إلى أحد أكبر التحالفات في التاريخ للسعي لضمان ألا تصبح أفغانستان مرة أخرى ملاذًا آمنًا للإرهابيين.
اليوم، نعلم جيدًا كيف انتهى هذا الفصل من التاريخ، وتواجه الولايات المتحدة الآن مشهدًا أمنيًا عالميًا مختلفًا تمامًا. وسيكون للطريقة التي غادرت بها الولايات المتحدة أفغانستان آثار وتداعيات لا تعد ولا تحصى: على الأمن الدولي والإرهاب العابر للحدود الوطنية والديمقراطية وحقوق الإنسان في أفغانستان وأماكن أخرى. كما أن الطريقة التي انسحبت بها الولايات المتحدة أيضًا ستضع تحت الاختبار العلاقات مع الحلفاء الرئيسيين في أوروبا وحول العالم – فقد شعر العديد منهم بالصدمة في أحسن الأحوال، أما في أسوئها فقد شعر بعضهم بأنه طعن في ظهره، ولا يقتصر ذلك على حلفاء الولايات المتحدة في أفغانستان فحسب، بل يتعداهم إلى أماكن أبعد. ويأتي كل هذا في أعقاب أربع سنوات من عمل إدارة ترامب الدؤوب على تفكيك البنية التحتية الدبلوماسية ذات الأهمية الحاسمة وعلى الانسحاب من الاتفاقيات الدولية الهامة، مما ولد ارتيابا عميقا في مصداقية أمريكا في التزاماتها. ولكن التحديات اليوم كثيرة. فقد أدى وباء كوفيد-19 إلى تعطيل الأنماط الاقتصادية التقليدية وسلاسل التوريد والعلاقات الدولية والمتعددة الأطراف. ومنذ ظهور الوباء، تنافست البلدان أحيانا وتعاونت أحيانا أخرى لتأمين المعدات وقائية واللقاحات وشرعت في فرض قيود السفر والتدابير الوقائية، واستبدلت بالعديد من الجوانب التقليدية لعلاقاتها «دبلوماسيةَ الوباء» الجديدة. ويلوح في الأفق حالة من الارتياب الاقتصادي العالمي الناجم عن هذه الإجراءات والاستجابات.
ولا شك أن التحديات الصحية والاقتصادية الحالية هائلة في حد ذاتها، لكن ارتباطاتها المعقدة مع الأمن تزيد من تعقيد الأمور. يوفر الوباء المستمر والقلق الاقتصادي مجموعة من الضغائن التي يمكن للجهات المتطرفة استغلالها. وفي هذا السياق المتوتر، يكون السكان المعرضون للخطر بشكل خاص عرضة لانتشار سرديات إرهابية متنوعة، فلا عجب أن يستعيد تنظيم القاعدة بعض ثقته، وكذلك الحال مع العديد من الجماعات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ولحركة اليمين المتطرف التي تكتسب زخمًا في أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا. وعلاوة على ذلك، لا تزال التحديات الأمنية التقليدية قائمة. وقد أدى صعود الصين إلى تحول العلاقات بين البلدان المتنافسة على النفوذ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي ظل هذه الخلفية، فإن أهمية التشبيك والتواصل على المستوى الفردي والتنظيمي والوطني والمتعدد الأطراف تبدو جليّة إذا أراد المجتمع الدولي درء الآثار السيئة للاستقطاب السياسي، الذي أصبح أكثر وضوحًا خلال جائحة كوفيد-19. ولا شك أن بعضا من أهم التحديات التي يواجهها عالمنا اليوم يتطلب التعاون، بما في ذلك قضايا الصحة العالمية وأزمة المناخ والنزاعات بين الدول والتجارة الدولية. لقد دفع الوباء إلى ابتكارات هائلة في مجال العلاقات الإنسانية والمهنية والسياسية. وبينما تكافح الدول والمنظمات الإقليمية لتحديد التحديات المستمرة والتعامل معها، أجبر الوباء القادة السياسيين على إعادة التفكير في الدبلوماسية والمشاركة، والتي تسارعت في نواح كثيرة من خلال ظهور تقنيات جديدة.
وحتى في أعقاب استيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان، لا تزال فرص التعاون وتعزيز التحالفات والعلاقات قائمة، وكذلك فرص الدفاع عن المكاسب المتواضعة التي تحققت في العقدين الماضيين في مجال حقوق الإنسان ومشاركة النساء والفتيات في الفضاء العام والحياة السياسية. وعلى سبيل المثال، يُظهر دور قطر في جهود الإخلاء وتأمين المطار في أعقاب الانسحاب الأمريكي الأعباء الهائلة التي تحملتها بعض الدول لمساعدة واشنطن. ولا يزال أمام المجتمع الدولي فرصة لتقديم مرتكبي جرائم داعش إلى العدالة ومحاسبتهم على الفظائع التي ارتكبوها. ولا شك أن التعاون الدولي مطلوب لدعم سيادة القانون وتوفير بعض العون لضحايا وحشية داعش. وتظل محاكمة الإرهابيين على المستويين الوطني والدولي تحديًا معقدًا، ولكن بعض التقدم الهام حصل على هذه الجبهة، ويمكن للدول وينبغي لها أن تفعل المزيد لدعم الجهود المشتركة وتبادل المعلومات في هذا الصدد. وتبدو القيادة الأمريكية الآن على مفترق طرق، وهي تكافح للحفاظ على قيادة الولايات المتحدة العالمية – وحتى إعادة تأكيدها، فيما يبدو العالم نفسه عالما مختلفا للغاية. وبينما تتطلع الدول إلى إعادة بناء اقتصاداتها واستعادة المرونة وتجديد التحالفات، يجب على واشنطن ألا تغيّب عن بالها أهمية التعاون. وبينما يركز الكثير من التحليلات المعاصرة على نطاق واسع من التهديدات، تظهر أيضًا نقاط محتملة للتعاون يمكنها تؤطر عمل قادة القطاعين العام والخاص وصانعي السياسات.