أوّل الكلام آخرُه:
- تتّبع إيران مجموعةً متنوّعةً من الأساليب في محاولةٍ منها للحفاظ على نفوذها في العراق وفي لبنان في موجة الاحتجاجات ضدّ هياكل السلطات القائمة.
- يشمل حلفاء إيران في كلا البلدين تكنوقراطيّين قد يلبّون المطالب الشعبيّة بالحكم الرشيد الكفوء مع الحفاظ على العلاقات القويّة مع إيران.
- وقد قبل حلفاء إيران في العراق ولبنان إستراتيجيّة إيران في مواجهة المتظاهرين بالعنف والترهيب.
- إنّ الحفاظ على النفوذ في الخارج أمرٌ محوريٌّ لإستراتيجيّة إيران في المنطقة، وهذا الأمر يُفسّر سعي واشنطن إلى منع طهران من الاستفادة من الاضطرابات.
تحوّلت الاحتجاجات المستدامة الّتي اندلعت في كلٍّ من العراق ولبنان خلال هذا الخريف إلى تحدٍّ غير متوقّعٍ تُواجهه إيران في بلدين لطالما اعتمدت عليهما من أجل تحقيق أهدافها المتعلّقة بأمنها القوميّ. وكانت إيران خلال العقود الأخيرة قد عملت بطريقةٍ منهجيّةٍ على بناء حركاتٍ شيعيّةٍ مواليةٍ لها في كلٍّ من العراق ولبنان وتطوير هذه الحركات لتجعل منها قوّاتٍ سياسيّةً عسكريّةً مهيمنةً تُؤثّر في سياسات بلادها اتّجاه طهران وتُفعّل خطط طهران الإقليميّة. ويسمح نفوذ إيران في المنطقة لها بتهديد الولايات المتّحدة وحلفائها الإقليميّين وذلك بفضل قدرتها على الحركة على امتداد المنطقة، كما يسمح لها أيضًا باعتراض طريق خصومها. ولكن بما أنّ حلفاء إيران في العراق ولبنان قد أصبحوا متجذّرين في بنية السلطة، بدأ يُنظر إليهم بوصفهم جزءًا من منظومة الفساد وسوء الإدارة في كلا البلدين والّتي أجّجت المظاهرات، أو حاميًا لها في الحدّ الأدنى. فطالب المحتجّون بتغييرٍ جذريٍّ يتطلّب في حال وقع أن يتخلّى حلفاء إيران عن مواقعهم في السلطة، والحدّ من قدرة إيران على النشاط العسكريّ في البلدين، وبحلفاء إيران نعني الفصائل الشيعيّة وميليشياتها في العراق وحزب الله في لبنان.
ومع إدراك إيران للتهديد الّذي يطال نفوذها الإقليميّ وأمنها القوميّ في المنطقة، باشر القادة الإيرانيّون العمل على هذه المسألة فور اندلاع الاحتجاجات في كلٍّ من البلدين. وشجّعت إيران بشكلٍ أوليٍّ حلفاءها المحلّيّين على اعتماد قواعد اللعبة الإيرانيّة الّتي لطالما استخدمتها طهران من أجل التعامل مرارًا وتكرارًا مع احتجاجاتٍ مماثلةٍ حصلت على أراضيها، ومن ضمنها تلك الّتي وقعت شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. ومن ضمن هذه القواعد استخدام العنف والترهيب ضد المحتجّين. وتشير بعض الإحصاءات غير الموثّقة إلى مصرع ما يقارب 1500 إيرانيٍّ قتلتهم قوّات الأمن الإيرانيّة. أمّا في العراق فقد هاجم مسلّحين يُعتقد ارتباطهم بالميليشيات العراقيّة المدعومة من إيران المحتجّين (وكثيرٌ منهم من الشيعة وكان من المتوقّع منهم أن يدعموا النفوذ الإيرانيّ). وبالحديث عن الميليشيات العراقيّة فهي تتضمّن كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق فضلًا عن قادة عراقيّين موالين لإيران يشغلون مراكز هامّةً في وزارة الداخليّة العراقيّة. أمّا في لبنان فقد هاجم مناصرون لحزب الله المتظاهرين ومن ضمنهم مواطنون شيعةٌ كانوا على الدوام مؤيّدين للحزب. وقد تراجع استخدام العنف في وجه المتظاهرين إلّا أنّه لم يتوقّف كليًّا في كلا البلدين.
ولعلّ إيران، وعلى نحوٍ غير متوقّعٍ، قد طوّرت أساليبها للتعامل مع الحركات الشعبيّة في كلٍّ من البلدين ولم تعد تقتصر على القوّة المفرطة. وبذلك تكون إيران قد استقصت درسًا من أحداث عام 2010 حيث أصرّت على بقاء رئيس الوزراء العراقيّ الشيعيّ آنذاك، نوري المالكي، وهو طائفيٌّ متشدّدٌ موالٍ لإيران، في منصبه، ممّا ساهم على ما يقول بعض المراقبين في تمدّد داعش واقترابه من تخريب مشروع إيران بالكامل تقريبًا في العراق. غير أنّ التحدّيات الأخيرة الّتي تواجهها إيران في كلٍّ من العراق ولبنان دفعتها إلى اعتماد منهجٍ آخر إلى جانب العنف. فهي على وجه الخصوص ابتعدت عن السياسيّين المخضرمين في البلاد وتتّجه نحو دعم شخصيّاتٍ مختصّةٍ (تكنوقراط) من الممكن أن تُرضي المحتجّين وتحافظ في الوقت عينه على حصّة إيران في النظام القادم. ففي العراق مثلًا، عملت إيران مع حلفائها الشيعة من أجل وضع شخصيّةٍ مختصّةٍ في الواجهة وهي قصي سهيل المرشّح لترؤّس الحكومة خلفًا لعادل عبد المهدي. ولسهيل ارتباطاته بالحركة الوطنيّة العراقيّة الّتي يقودها رجل الدين الشيعيّ مقتدى الصدر، وله علاقاتٌ أيضًا بكتلٍ شيعيّةٍ أخرى. فضلًا عن ذلك فإنّ كونه وزيرًا سابقًا للتربية وأستاذًا في الجامعة يُكسبه مظهرًا معتدلًا ويبعد عنه تهمة الفساد المستشري في النظام السياسيّ العراقيّ. إلّا أنّ نظرة المحتجّين لسهيل على أنّه مرشح إيران قد تبعده عن رئاسة الحكومة. وبالرغم من هذا فإنّ أيّ مرشحٍ يُسمّى لترؤّس الحكومة يجب أن توافق عليه القيادة الإيرانيّة.
أمّا في لبنان فقد اقترح حزب الله وإيران مرشّحًا مرنًا قد يُلبّي مطالب المتظاهرين في تشكيل حكومة اختصاصيّين بدلًا من حكومةٍ سياسيّة الطابع. فبعد فشل سعد الحريري المدعوم من السعوديّة في استعادة منصب رئاسة الحكومة الّذي استقال منه في أواخر تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي تحت ضغط المحتجّين، سمّى كلٌّ من حزب الله وحليفيه حركة أمل والتيّار الوطنيّ الحرّ مرشّحًا سنيًّا مختصًّا وهو حسّان دياب لرئاسة الحكومة المقبلة. وعلى غرار قصيّ سهيل في العراق فإنّ حسّان دياب أستاذٌ جامعيٌّ ووزير تربيةٍ سابقٌ. وقد تعهّد دياب بتشكيل حكومةٍ غير سياسيّةٍ قادرةٍ على إخراج لبنان من الأزمة الماليّة الّتي يمرّ بها. إلّا أنّ تسميته لم ترضِ جماعاتٍ من المحتجّين الّذين وصفوه بـ«مرشّح حزب الله». غير أنّ المحتجّين لا يملكون ورقة ضغطٍ تمنع وصول دياب إلى سدّة رئاسة الحكومة. وقد زار مسؤولون أمريكيّون كلًّا من العراق ولبنان، ساعين إلى هندسة حكومةٍ مقبلةٍ مقرّبةٍ من أمريكا أكثر ممّا هي مقرّبةٌ من طهران. ولا يزال عديد القوّات العسكريّة الأمريكيّة في العراق يصل إلى قرابة الـ6000 جنديٍّ، الأمر الّذي يُعطي أمريكا نفوذًا أكبر في العراق من نفوذها في لبنان. إلّا أنّه يبدو أنّ إيران ستخرج من أزمتي العراق ولبنان بمستوى النفوذ الّذي كان لها فيما قبل على الأقلّ، وهو أمرٌ يبدو أنّ إيران تسعى إليه بطرقٍ تتراوح بين الإكراه والأساليب السياسيّة.