أوّل الكلام آخرُه:
- إنّ استخدام أوروبا للآليّة الرسميّة لفضّ النزاعات المنصوص عليها في الاتّفاق النوويّ الإيرانيّ هو نتيجةٌ لتخلّي إدارة ترامب عن هذا الاتّفاق في عام 2018.
- لقد أوضح الأوروبيّون أنّ لجوأهم للتحكيم لا يعني أنّهم بذلك ينضمّون إلى حملة ترامب المتمثّلة بالضغوطات القصوى على إيران.
- يُمكن أن تؤدّي عمليّات التحكيم إلى إجراء محادثاتٍ حول اتّفاقٍ معدّلٍ وموسّعٍ مع إيران، وهذا ما تدعو إليه إدارة ترامب.
- غير أنّه من المرجّح أن تتعثّر المساعي إلى محادثاتٍ أمريكيّةٍ إيرانيّةٍ بسبب رفض إدارة ترامب تخفيف العقوبات على إيران من جهةٍ، ورفض طهران تقييد عمليّاتها الإقليميّة في أعقاب الضربة الأمريكيّة الّتي أودت بحياة سليماني من جهةٍ أخرى.
في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير، أعلنت البلدان الأوروبيّة الثلاثة المشاركة بخطّة العمل الشاملة المشتركة (الاتّفاق النوويّ الإيرانيّ) لعام 2015 وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا أنّها سوف تطلب تطبيق الخطوات المذكورة في الاتّفاق لحلّ الخلاف ردًّا على تخفيف إيران (على خمس مراحل) التزاماتها ببنود هذا الاتّفاق. وجاءت هذه الخطوة الأوروبيّة بعد أيّامٍ على إعلان إيران أنّها ستوقف التزامها بالبنود الكبرى في الاتّفاق والّتي تقضي بحصر عدد أجهزة الطرد المركزيّ العاملة في 5000 جهازٍ. وهذا الإعلان يعني أنّ طهران لن تقيّد نسبة تخصيبها لليورانيوم بنسبة 3,67 % ولن تلتزم بالحدود المسموحة لتخزين اليورانيوم المخصّب المنصوص عليها في الاتّفاق. وبالمجمل فإنّ الوقت الّذي يتطلّبه تجميع الموادّ الأساسيّة لصناعة أسلحةٍ نوويّةٍ هو الآن (مع هذا الإعلان الإيرانيّ) أقلّ من سنةٍ من اللحظة الّتي تقرّر فيها إيران صناعة السلاح النوويّ إن قرّرت. وكان الاتّفاق ينصّ على ضرورة الحفاظ على سنةٍ كاملةٍ فاصلًا زمنيًّا. واتّخذت إيران هذه الخطوات في ظلّ جهودها لدفع حلفاء الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى الضغط على إدارة ترامب للتخفيف من العقوبات الّتي تؤذي الاقتصاد الإيرانيّ.
وتسعى الخطوة الأوروبيّة الأخيرة إلى الحفاظ على مصداقيّتها بوجه الاستخفاف الإيرانيّ بالاتّفاق. وأبدت بريطانيا وفرنسا وألمانيا تفهّمها لموقف إيران إزاء إعادة إدارة ترامب فرض العقوبات القديمة واستحداثها عقوباتٍ جديدةً تمنع إيران من التمتّع بمكاسب الاتّفاق النوويّ. إلّا أنّ القوى الأوروبيّة الثلاث صرّحت بأنّها لا تقبل وجهة نظر إيران القاضيّة بحقّها في تخفيف التزاماتها جرّاء العقوبات الأمريكيّة الجديدة. وانتهاكات إيران اليوم باتت واضحةً، ولا يُمكن الأوروبيّين تسويغها بوصفها جهودًا إيرانيّةً تسعى إلى جعل إدارة ترامب تتراجع عن حملة الضغط القصوى الّتي تعتمدها في وجه إيران.
وتسعى هذه الدول الأوروبيّة بخطواتها الأخيرة إلى حثّ إيران على التفاوض من جديدٍ لتعديل الاتّفاق النوويّ الإيرانيّ بشكلٍ قد يجذب الإدارة الأمريكيّة. غير أنّ هذه الدول الأوروبيّة الثلاث أعلنت أنّها رغم لجوئها إلى آليّات تسوية النزاع تبقى غير داعمةٍ للحملة الأمريكيّة للضغط الأقصى، فهي تسعى إلى الحفاظ ولو بشكلٍ جزئيٍّ على الاتّفاق لا إلى وأده. والآليّات المنصوص عليها في الاتّفاق النوويّ تقضي بتدخّل وسيطٍ بين إيران والأطراف الأخرى خلال فترة شهرين على الأقل. وإحدى النتائج المحتملة لهذه الآليّة هي إعادة فرض جميع العقوبات الّتي فرضتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتّحاد الأوروبيّ على إيران، رغم أنّ القوى الأوروبيّة أشارت إلى أنّها لا تريد الوصول إلى هذه النتيجة.
وعلى أيّ حالٍ، تأمل القوى الأوروبيّة توسيع نطاق عمليّة تسوية النزاع بالتحكيم ليشمل نقاشًا أوسع تشارك به إدارة ترامب. وبالنسبة لواشنطن، قد يمنح مثل هذا الحوار فرصةً لتهدئة التوتّرات السياسيّة مع إيران، ويسمح للولايات المتّحدة أن تُحقّق بعض أهدافها المعلنة، ولا سيّما التمديد الزمنيّ لبعض الالتزامات الإيرانيّة إلى ما بعد سنة 2025 وهي السنة الّتي ستبدأ بها قيود الاتّفاق النوويّ بالانحلال، فضلًا عن وضع قيودٍ على تطوير إيران للصواريخ البالستيّة. وكان وزير الخارجيّة الإيرانيّة محمّد جواد ظريف قد أشار، خلال العامين الماضيين، إلى أنّ إيران قد تكون مستعدّةً للتفاوض على هذه المطالب مع إدارة ترامب. وبغضّ النظر عن تشديد الموقف الإيرانيّ في أعقاب الضربة الأمريكيّة الّتي قتلت قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ الإيرانيّ قاسم سليماني، فإنّ العوائق الرئيسة لهذه المفاوضات هي الرفض الإيرانيّ لقبول أيّ حدودٍ لنفوذها الإقليميّ، ورفض إدارة ترامب تخفيف العقوبات على إيران. ويبدو أنّ إدارة ترامب تعتقد أنّ فرض العقوبات قد يجبر إيران على الاستسلام والموافقة على التخليّ عن أركان سياسة الأمن القوميّ الخاصّة بها، أي تسليح الحلفاء والوكلاء الإقليميّين ودعهم، بما يجعل طهران قادرةً على مدّ نفوذها في جميع أنحاء المنطقة. وما من دليلٍ حتّى الآن أنّ إيران قد تغيّر من إستراتيجيّتها الأساسيّة، بغضّ النظر عن الألم الاقتصاديّ الّذي تواجهه.