أوّل الكلام آخرُه:
- تعدُّ الضربة الجويّة الّتي شنّتها القوّات الأمريكيّة في الـ 29 من شهر كانون الأوّل/ ديسمبر على كتائب حزب الله في العراق، المدعومة من إيران، أوّل تحرّكٍ أمريكيٍّ عسكريٍّ للردّ على سلسلة الأعمال الاستفزازيّة الإيرانيّة الّتي بدأت في شهر أيّار/ مايو.
- ورغم أنّ القصف الأمريكيّ حصل ردًّا على صواريخ كتائب حزب الله الّتي أدّت إلى مقتل مقاولٍ أمريكيٍّ يعمل لحساب وزارة الدفاع الأمريكيّة، فإنّه قد أدّى إلى زعزعة العلاقات بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة والحكومة العراقيّة، الأمر الّذي سيؤدّي إلى مواجهة الولايات المتّحدة الأمريكيّة تعقيداتٍ في جهودها ضدّ تنظيم داعش.
- إنّ الردّ الإيرانيّ المتمثّل بإغراق محيط السفارة الأمريكيّة بأعدادٍ غفيرةٍ من المتظاهرين العراقيّين المناصرين لإيران ما هو إلّا مؤشّرٌ على أنّ النزاع الأمريكيّ الإيرانيّ لا يعرف حدودًا ولا أفق واضحًا لنهايته.
- أمام إيران خياراتٌ متعددّةٌ لتصعيد المواجهة، سواءٌ أكان ذلك داخل العراق أم على نطاقٍ أوسع في منطقة الشرق الأدنى.
قصفت طائرةٌ حربيّةٌ أمريكيّةٌ خمسة مواقع عسكريّةٍ تابعةٍ لكتائب حزب الله في العراق، وهي ميليشيا مدعومةٌ من إيران، وذلك في الـ29 من شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، وأدّى هذا القصف إلى مقتل 24 مقاتلًا من الميليشيا. وتقع ثلاثٌ من هذه القواعد غربيّ العراق، أمّا القاعدتان المتبقّيتان فهما على الجانب السوريّ من الحدود. ووصفت وزارة الدفاع الأمريكيّة هذا القصف بالعمل الدفاعيّ ردًّا على اعتداءٍ صاروخيٍّ واسعٍ كانت كتائب حزب الله قد شنّته قبل يومٍ مستهدفةً قاعدةً عسكريّةً أمريكيّةً في كركوك الأمر الّذي أدّى إلى مقتل مقاولٍ أمريكيٍّ يعمل لحساب وزارة الدفاع الأمريكيّة وجرح أربعة جنودٍ أمريكيّين. واعتداء كركوك هو الأخير في سلسلةٍ من أحد عشر اعتداءً استهدف القواعد العسكريّة في العراق حيث يعسكر قرابة 5000 جنديٍّ أمريكيٍّ، ويُعتقد بأنّ معظم هذه الاعتداءات كانت قد شنّتها كتائب حزب الله. وكانت الولايات المتّحدة الأمريكيّة قد صنّفت كتائب حزب الله منظّمةً إرهابّيةً أجنبيّةً، وتُعدّ هذه الميليشيا حليفًا إيرانيًّا يستحوذ على أسلحةٍ متعدّدةٍ تزوّده بها إيران من ضمنها صواريخ بالستيّةٌ قصيرة المدى، وهي أسلحةٌ يمكن إيران أن تستعرض بها قوّتها في المنطقة. وأكّدت إدارة ترامب أنّ الخسائر البشريّة الّتي تكبّدتها جرّاء اعتداء حزب الله قد تخطّت الخطوط الحمراء، الأمر الّذي استدعى ردًّا عسكريًّا مباشرًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ الاعتداءات الّتي شّنها حلفاء إيران على منشآت النقل البحريّ الدوليّ في الخليج الفارسيّ خلال الأشهر الممتدّة من أيّار/ مايو إلى آب/ أغسطس فضلًا عن اعتداء الـ14 من أيلول/ سبتمبر الّذي استهدف منشآتٍ نفطيّةً سعوديّةً كبرى لم ينتج عنها أيّ حالات وفاةٍ.
وبغضّ النظر عن مسوّغات الضربات الأمريكيّة على كتائب حزب الله، فقد أثار القصف إدانةً شديدةً من جانب قادة العراق. ورغم أنّ كتائب حزب الله، على ما يعتقد كثيرون، تتبع توجيهات الحرس الثوريّ الإيرانيّ- فيلق القدس، إلّا أنّها من الناحية الرسميّة فصيلٌ من قوّات الحشد الشعبيّ العراقيّ الّذي يعمل (اسميًّا على الأقلّ) ضمن هيكل القيادة العسكريّة العراقيّة الرسميّة، والّذي كان محوريًّا في العمل ضدّ داعش. ويُعدّ قادة قوّات الحشد الشعبيّ شخصيّاتٍ سياسيّةً قويّةً، وقد قاموا بإغراق محيط السفارة الأمريكيّة في بغداد بالمتظاهرين في الـ31 من شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، في خطوةٍ مدفوعةٍ من إيران على الأرجح. ولم تُواجه قوات الأمن العراقيّة هذا الهجوم بأيّ مقاومةٍ تذكر، لكنّه بدا أيضًا أنّه تقصّد ألّا يخترق المباني وألّا يُهاجم أيّ ديبلوماسيٍّ أمريكيٍّ. وسواء أكان ذلك من تصميمٍ إيرانيٍّ أم لم يكن، فإنّ الأحداث في العراق زعزعت التوازن الذي سعى إليه قادة العراق في تحالفاتهم مع كلٍّ من إيران والولايات المتّحدة الأمريكيّة. ومن المحتمل أن يستخدم قادة قوّات الحشد الشعبيّ هذه الأحداث لتصعيد حملتهم السياسيّة الطويلة المدى لدفع الحكومة العراقيّة إلى طرد القوّات الأمريكية من العراق، على الرغم من أنّ هذه النتيجة غير مرجّحةٍ نظرًا لاعتماد العراق على القوّة العسكريّة الأمريكيّة في حربه مع داعش.
وضاعف التصعيد الأمريكيّ الإيرانيّ في الداخل العراقيّ احتمال أن تنجرّ إدارة ترامب إلى حربٍ مع إيران، وهي حربٌ لطالما صرّح الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب بأنّه لا يريد اندلاعها. واعتمدت إدارة ترامب على حملة الضغط القصوى على إيران والّتي تقضي بفرض عقوباتٍ اقتصاديّةٍ حازمةٍ عليها من أجل دفعها للقبول باتّفاقٍ نوويٍّ معدّلٍ يحتوي على بنودٍ تحدّ من النشاط الإيرانيّ في المنطقة، وذلك على عكس الاتّفاق النوويّ الّذي حصل عام 2015. إلّا أنّ الاعتداء الّذي شنّته كتائب حزب الله على القوّات الأمريكيّة فضلًا عن القصف الإيرانيّ في الـ14 من أيلول/سبتمبر والّذي أدّى إلى تراجع إنتاج النفط السعوديّ هما من ضمن العوامل الّتي تُثبت أنّ حملة الضغط القصوى الأمريكيّة لم تنجح في إضعاف قدرة إيران على استعراض قوّتها. وعلى العكس من المتوقّع، دفعت هذه الحملة طهران لإطلاق حملة مقاومةٍ قصوى من أجل إجبار إدارة ترامب على التخفيف من العقوبات.
وتجدر الإشارة إلى أنّ أيّ صراعٍ بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران مرشّحٌ للتوسّع ليشمل جبهاتٍ متعدّدةً وكثيرةً، الأمر الّذي سيجرّد الولايات المتّحدة الأمريكيّة من قدرتها على الحسم العسكريّ. فإستراتيجيّة الأمن القوميّ الخاصّة بطهران مبنيّةٌ على حلفائها الإقليميّين (مثل كتائب حزب الله) القادرين على شنّ هجماتٍ محتملةٍ على مجموعةٍ من الأهداف التابعة للولايات المتّحدة الأمريكيّة أو لحلفائها في منطقة الشرق الأدنى. وأظهرت إيران قدرتها على الاعتداء على دول الخليج الفارسيّ من جهةٍ وعلى النقل البحريّ العالميّ في الخليج أو في مضيق باب المندب من جهةٍ أخرى، وذلك إمّا مباشرةً أو عبر حلفائها في المنطقة مثل حركة أنصار الله (الحوثيّين) في اليمن. ووجّهت إيران تهديدًا بقصف المدن الإسرائيليّة وذلك عبر حليفها اللبنانيّ حزب الله وحليفيها الفلسطينيّين حماس والجهاد الإسلاميّ إلى جانب القوّات الإيرانيّة في سوريا حيث يستضفيها نظام الرئيس بشار الأسد الّذي يُعدّ أحد الحلفاء الأساسيّين لإيران. ولإيران أيضًا حلفاء في أفغانستان المجاورة لها حيث يستمرّ 13000 من عديد القوّات الأمريكيّة بممارسة نشاطاتهم. ولعلّ الحلّ السياسيّ الوحيد الممكن لمنع اندلاع صراعٍ إقليميٍّ واسعٍ بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة وإيران هو الحلّ الّذي يسمح بتخفيف الضغوطات الاقتصاديّة الأمريكيّة على إيران ضمن صفقةٍ أوسع.