أوّل الكلام آخرُه:
- من العجيب أن تأتي تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيّين رفيعي المستوى صدًى لخطاب الكرملن الّذي يصوّر روسيا ضحيّةً لحملةٍ إعلاميّةٍ أوكرانيّةٍ مغرضةٍ.
- ما فتئ المسؤولون الأمريكيّون يتراسلون فيما بينهم باستخدام خطوطٍ غير آمنةٍ في بيئةٍ تعجّ بأجهزة الاستخبارات المناوئة الّتي تراقب الشارد والوارد، من غير تحسّبٍ للعواقب، الأمر الّذي يظهر لامبالاةً بيّنةً بأمن عمليّاتهم.
- والظاهر أنّ روسيا وبعض الأطراف الأخرى (بطريقةٍ أو بأخرى) على اطّلاعٍ على محادثاتٍ حسّاسةٍ سياسيًّا قد تحتوي على تفصيلاتٍ تتعلّق بالتحقيقات المرتبطة بعزل الرئيس ترامب.
- ستستمرّ روسيا بتطوير تكتيكاتيها وتقنيّاتها وإجراءاتها لإعاقة التحالفات الغربيّة من جهةٍ ونصب الحواجز بين المجموعات السكّانيّة المختلفة داخل الجسد السياسيّ الأمريكيّ.
أظهرت التحقيقات المرتبطة بإجراءات العزل الّتي تجريها لجنة الاستخبارات في مجلس النواب جهودًا متواصلةً لبعض مسؤولي البيت الأبيض والكونغرس رفيعي المستوى لتنحية اللوم عن روسيا وإلقائه على أوكرانيا فيما يتعلّق بالتدخّل في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة سنة 2016. وقد أكّد المجتمع الاستخباراتيّ الأمريكيّ حجم الجهود الّتي تبذلها موسكو وحجم حملة التضليل الإعلاميّ الّتي تشنّها. فمن العجيب بعد هذا كلّه أن تأتي تصريحات بعض المسؤولين الأمريكيّين رفيعي المستوى، ومنهم الرئيس ترامب نفسه وأعضاءٌ في إدارته وقادةٌ في الكونغرس، صدًى لخطاب الكرملن الّذي يصوّر روسيا ضحيّةً لحملةٍ إعلاميّةٍ أوكرانيّةٍ مغرضةٍ. وتجيء هذه التصريحات بالرغم من الشواهد الكثيرة المؤكّدة الدالّة على خلاف ما تفيده هذه التصريحات. وهي، على هذا، لا تقيم وزنًا لتحليلات مسؤولي الاستخبارات الأمريكيّة ومحلّليها (ولا سيّما القدامى منهم) الموضوعيّة وغير الحزبيّة.
وهذا الإصرار على تكرار الدعاية الروسيّة الّذي يجري على ألسنة المسؤولين الأمريكيّين سياسيٌّ في طبيعته وأهدافه، فهو جزءٌ من دفاع الرئيس في مواجهة إجراءات العزل. ولكنّه يلقي بظلالٍ من الشكّ على كامل مؤسّسات الولايات المتّحدة العامّة، وينزع الثقة بها، ويفقدها مصداقيّتها، ولهذه الإستراتيجيّة مخاطر كبيرةٌ على الأمن القوميّ الأمريكيّ. وببساطةٍ يمكن القول إنّ المسؤوليّن الأمريكيّين المنخرطين في اتّصالاتٍ بروسيا عبر الخطوط الخلفيّة غير الرسميّة أو أولئك الّذين يسوّقون مضامين الدعاية الروسيّة يعرّضون أنفسهم لخطر أن تنظر إليهم الجهات الأجنبيّة بوصفهم قابلين للمساومة. وقد تبيّن مرارًا من الشهادات العامّة ومحاضر جلسات الاستماع المغلقة أنّ المسؤولين الأمريكيّين الحاليّين والسابقين ما فتئوا يتراسلون فيما بينهم باستخدام خطوطٍ غير آمنةٍ في بيئةٍ تعجّ بأجهزة الاستخبارات المناوئة الّتي تراقب الشارد والوارد، من غير تحسّبٍ للعواقب.
والتهديدات متعدّدة الأوجه. فلا شكّ أنّ هذه الاتّصالات والمراسلات غير المحميّة قد خضعت لتحليل الوكالات الاستخباراتيّة التابعة لعدّة دولٍ، بما في ذلك دولٌ تنافس الولايات المتّحدة أو تخاصمها. وهذا يمكّن الحكومات الأجنبيّة من النفاذ إلى بعض القضايا السياسيّة الحسّاسة ما يجعل الولايات المتّحدة في وضعيّةٍ غير مريحةٍ. على أنّ خطرًا أكبر، وإن كان أكثر خفاءً، يمثل للعيان، وهو أنّ الاستخبارات الأجنبيّة قد تحوز المادّة الخامّ لهذه الاتّصالات، بما يشمل تسجيلاتٍ صوتيّةً ورسائل إلكترونيّةً ومكالماتٍ هاتفيّةً إلى غير ذلك من موادّ الاتّصالات المراقبة. وقد كان السفير الأمريكيّ في الاتّحاد الأوروبي جوردن ساندلاند قد أشار في شهادته العلنيّة إلى أنّ عددًا من المسؤولين الأمريكيّين رفيعي المستوى كانوا على اطّلاعٍ على الجهود المبذولة للضغط على أوكرانيا لتعلن عن تحقيقٍ يتعلّق بأحد خصوم الرئيس ترامب المحلّيّين. ولنا أن نفترض مبدئيًّا أنّ روسيا وبعض الأطراف الأخرى (بطريقةٍ أو بأخرى) على اطّلاعٍ على محادثاتٍ حسّاسةٍ سياسيًّا قد تحتوي على تفصيلاتٍ تتعلّق بالتحقيقات المرتبطة بعزل الرئيس ترامب.
ويخلق بعض المسؤولين الأمريكيّين حالةً من غياب الثقة بالحكومة عينها الّتي يدّعون تمثيلها. وتشيع اليوم نظريّات المؤامرة الّتي تحكي عن «دولةٍ عميقةٍ» تحكم الولايات المتّحدة، ما جعل بعض نوّاب الكونغرس وبعض مسؤولي الولايات المتّحدة يلمّحون إلى روسيا بوصفها جهةً أعلى مصداقيّةً من بعض الوكالات الحكوميّة الأمريكيّة. ونجاح روسيا في التأثير في انتخابات 2016 الأمريكيّة لا يمكن التقليل من شأنه، فقد حقّقت عائدًا على استثمارها لم تحقّق نظيره فيما مضى. ولعلّ الكرملين اليوم يرى أنّ عمليّاته في المساحة الرماديّة لإضعاف المؤسّسات الديمقراطيّة أنجع من العمل المباشر الظاهر ضدّ المصالح الغربيّة. وعندما تحظى عمليّات التأثير الممنهجة بدعم مسؤوليّين غربيّين أو تغطيتهم يكون تأثيرها مضاعفًا على نحوٍ لم يكن يحلم به أيٌّ في دوائر الرئيس بوتين المقرّبة. وإذا ما ظلّت الولايات المتّحدة تنهش في لحمها الحيّ وتعرّي عوراتها (المتأصّلة في نظامها الديمقراطيّ المحلّي)، فإنّ روسيا ستستمرّ بتطوير تكتيكاتيها وتقنيّاتها وإجراءاتها لإعاقة التحالفات الغربيّة من جهةٍ ونصب الحواجز بين المجموعات السكّانيّة المختلفة داخل الجسد السياسيّ الأمريكيّ.