أوّل الكلام آخرُه:
- تُشكّل الضربة الصاروخيّة الأمريكيّة الّتي أسفر عنها مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ الإيرانيّ الجنرال قاسم سليماني ومؤسّس كتائب حزب الله العراقيّة الموالية لإيران تصعيدًا كبيرًا على ساحة الصراع الأمريكيّ الإيرانيّ.
- تُشكّل هذه الضربة ردًّا مباشرًا على إغراق محيط السفارة الأمريكيّة في بغداد بالمتظاهرين المحتجّين في الـ 31 من كانون الأوّل/ ديسمبر من عام 2019، وهو ما كان قد أقدمت عليه كتائب حزب الله وغيرها من الفصائل الشيعيّة المسلّحة.
- وستردّ إيران حتمًا، ومن المرجّح أن يأتي هذا الردّ عبر شبكتها الواسعة من الحلفاء والوكلاء في المنطقة والّتي لا تتضمّن المجموعات العسكريّة في العراق فحسب بل حركة أنصار الله في اليمن والمجموعات العسكريّة في سوريا وحزب الله في لبنان.
- وقد يُنذر الردّ الإيرانيّ ببدء صراعٍ أمريكيٍّ إيرانيٍّ بعيد المدى لا حلول عسكريّةً واضحةً له، ولا تتوفّر الظروف الملائمة لوضع حدٍّ له.
بات من المؤكّد أنّ القوّات الأمريكيّة هي من شنّت الاعتداء في الثالث من كانون الثاني/ يناير الجاري والّذي أدّى إلى مقتل أحد أبرز قادة الحرس الثوريّ الإيرانيّ وقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني الّذي عمل خلال العقدين الماضيين على بناء شبكةٍ واسعةٍ من التنظيمات الموالية لإيران ومن الأذرع الضاربة تسمح لطهران باستعراض القوّة والدفاع عن مصالحها وحلفائها. وقُتل في الغارة نفسها أبو مهدي المهندس وهو مؤسّس كتائب حزب الله، المجموعة المسلّحة الّتي كانت قد أطلقت صواريخ على القواعد العسكريّة الأمريكيّة خلال الأسابيع القليلة الماضية، وهو ما ردّت عليه القوّات الأمريكيّة بضربتين على قواعد لكتائب حزب الله غربيّ العراق وسوريا في الـ29 من كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي. وعلى إثره، قامت كتائب حزب الله ومجموعاتٌ أخرى بإغراق محيط السفارة الأمريكيّة في بغداد بالمتظاهرين المحتجّين الّذين أحرقوا أيضًا بعض المباني، ولعلّ ذلك كان بتحريضٍ مباشرٍ من سليماني والنظام الإيرانيّ. وأكّدت وزارة الدفاع الأمريكيّة أنّ طائرةً مسيّرةً شنّت هجماتٍ جويّةً أدّت إلى مقتل سليماني وأنّ هذه العمليّة تمّت تحت إشراف «الرئيس الأمريكيّ … في إطار خطّةٍ دفاعيّةٍ لحماية الأمريكيّين العاملين في الخارج».
وتُشكّل هذه الأحداث الأخيرة الّتي حصلت في بغداد عاملًا تصعيديًّا واضحًا للتوتّرات الإيرانيّة الأمريكيّة الّتي تراكمت منذ أشهرٍ إلّا أنّها لم تصل إلى حدود النزاع العسكريّ المباشر أو غير المباشر. وباستقراء النظائر التاريخيّة، فلا بدّ لإيران أن تنتقم لمقتل سليماني، بالرغم من أنّ طهران كانت قد انتظرت فتراتٍ طويلةً قبل الردّ في مراحل سابقةٍ. ولعلّ أحد السناريوهات المحتملة الّتي قد تتّبعها إيران هو تعبئة العناصر الشيعيّة الموالية لها في العراق والّتي تُشكّل نواتها المجموعات المسلّحة المدعومة من إيران مثل كتائب حزب الله (ومجمل هذه المجموعات تندرج ضمن لواء قوّات الحشد الشعبيّ الّتي نجحت في هزيمة داعش) لطرد القوّات العسكريّة الأمريكيّة في العراق.
وبالفعل أدّى القصف الجويّ الأمريكيّ على قواعد كتائب حزب الله إلى تهديد البرلمان العراقيّ باتّخاذ إجراءاتٍ تقضي بالمطالبة بمغادرة الجيش الأمريكيّ العراق، أمّا بعد مقتل سليماني والمهندس فإنّه بات من المؤكّد أنّ المجتمع الشيعيّ الموالي لإيران سيضغط لطرد القوّات الأمريكيّة بالطرق التشريعيّة إن تيسّرت أو بالقوّة أو باعتماد الطريقتين معًا. وباتت الحكومة العراقيّة عالقةً بين الولايات المتّحدة الأمريكيّة من جهةٍ وإيران من جهةٍ أخرى، ومن المرجّح أن تُظهر هذه الضربة واشنطن على أنّها طرفٌ معادٍ لقوّات الحشد الشعبيّ ومعادٍ أيضًا للشيعة عمومًا داخل العراق وهو أمرٌ قد يجعل من عمل القوّات الأمريكيّة في العراق ضدّ داعش متعذّرًا. وتجدر الإشارة إلى أنّ القوّات الموالية لإيران قادرةٌ على زعزعة الحكومة العراقيّة بشكلٍ قويٍّ. وتعمل المجموعات المسلّحة المدعومة من إيران ضمن قوّات الحشد الشعبي بشكلٍ مستقلٍّ أحيانًا، وهي مرتبطةٌ مباشرةً بطهران إلّا أنّها تُعدّ قوّاتٍ وطنيّةً عراقيّةً وهي تندرج من الناحية الشكليّة القانونيّة في هيكل القوّات العسكريّة العراقيّة.
وقد تحاول إيران الردّ خارج حدود العراق مستعينةً بشبكتها الصلبة من الحلفاء والوكلاء، أو بواسطة قوّتها الصاروخيّة انطلاقًا من أراضيها. وفي أيلول/ سبتمبر الماضي، شنّت إيران هجماتٍ صاروخيّةً غير متوقّعةٍ على منشآت النفط السعوديّة أدّت إلى تراجع إنتاج النفط السعوديّ إلى النصف لأكثر من شهرٍ. وقبل ذلك احتجزت إيران باخرةً تجاريّةً مخصّصة لنقل النفط في الخليج الفارسيّ. ومن الممكن أن تتّخذ إيران خطواتٍ مماثلةً مجدّدًا. فضلًا عن ذلك فإنّ إيران تُزوّد حركة أنصار الله (الحوثيّين) بالأسلحة في اليمن ومن ضمن هذه الأسلحة صواريخ باليستيّةٌ قصيرة المدى وقذائف كروز، وقد استخدم الحوثيّون هذه الصواريخ في مضيق باب المندب بوجه أهدافٍ سعوديّةٍ مدنيّةٍ وعسكريّةٍ على حدٍّ سواءٍ. وأيًّا كانت الإجراءات الّتي ستتّخذها إيران في هذا المجال فإنّه من المرجّح أن يتوسّع نطاق صراع الولايات المتّحدة الأمريكيّة في المنطقة ومن المحتمل أن يشمل هذا التوسّع المناطق الّتي لا تمتلك فيها القوّات الأمريكيّة قواعد عسكريّةً أو أيّ وجودٍ عسكريٍّ. ومن المؤكّد أن تؤدّي أحداث شهر كانون الأوّل/ ديسمبر 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020 إلى تأزّم العلاقة الأمريكيّة الإيرانيّة، لنصبح أبعد من أيّ وقتٍ مضى عن التسوية السياسيّة الّتي تستعيد القيود على برنامج إيران النوويّ في مقابل تخفيف العقوبات الأمريكيّة الّتي تؤذي الاقتصاد الإيرانيّ.