أوّل الكلام آخرُه:
- بعد انهيار خلافة داعش المزعومة رفضت عدّة دولٍ أوروبيّةٍ إعادة توطين مواطنيها من المقاتلين الأجانب المأسورين ونسائهم وأطفالهم، وتقديمهم إلى العدالة، وفضّلت تركهم في معسكرات الاحتجاز في سوريا.
- في أوائل شباط / فبراير، أعلنت قوّات سوريا الديمقراطيّة عن محاكمة أكثر من ألف مقاتلٍ من المقاتلين الأجانب المأسورين الّذين تحتجزهم المنظمّة حاليًّا.
- لا يتّفق حرمان الفرد من الجنسيّة، حتّى في حال المحاسبة على ارتكاب جرائم خطيرةٍ، وتعريفَ المواطنة في مجتمعٍ ديمقراطيٍّ أو ليبراليٍّ.
- تتّسم محاولة الدول التخلّص من مواطنيها بقصور النظر، إذ هي بذلك تقايض وهم الأمن القصير الأمد بواقع الخطر الكبير المحدق في المستقبل.
اجتذب داعش، خلال فترة ذروته، عشرات الآلاف من الأجانب من عشرات البلدان من جميع أنحاء العالم. ووفقًا لذلك، تحوّل هذا التنظيم إلى ظاهرةٍ عالميّةٍ هيمنت على العناوين الرئيسة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه. حتّى الآن، ورغم تضعضع تنظيم داعش، فإنّه لا يزال يشكّل خطرًا في سعيه إلى إعادة بناء شبكاته في المنطقة وخارجها. ولا تزال المنظّمة وأيديولوجيّتها تحفّز أتباعها على ارتكاب أعمالٍ مميتةٍ باسمها. ويشكّل الآلاف من المقاتلين الأجانب المأسورين الّذين تركوا أوطانهم لإلحاق الدمار في العراق وسوريا، وكان معظمهم متطوّعين متلهّفين، جزءًا كبيرًا من الخطر المتبقّي. وبعد انهيار الخلافة المزعومة، رفضت الدول الأمّ للمقاتلين الأجانب المأسورين التعامل مع ما سيحدث في المرحلة المقبلة، على الرغم من مبادرة بعض البلدان إلى إعادة أعدادٍ بسيطةٍ من عوائل مقاتلي تنظيم داعش وأطفالهم إلى أوطانهم، إلّا أنّ العديد من الدول الغربيّة تجاهلت هؤلاء المحتجزين ببساطةٍ أو جرّدتهم من جنسيّاتهم. ومن الضروريّ أن يتّخذ المجتمع الدوليّ إجراءاتٍ مدروسةً ومنسّقةً نظرًا إلى استحالة استمراريّة الوضع الراهن.
في أوائل شباط / فبراير، أعلنت قوّات سوريا الديمقراطية عن محاكمة أكثر من ألف مقاتلٍ من المقاتلين الأجانب المأسورين الّذين تحتجزهم المنظّمة حاليًّا. وقد صدر هذا البيان بعد انهيارٍ آخر في المحادثات بين قوّات سوريا الديمقراطيّة ومجموعةٍ من البلدان حول مصير مواطنيها. ينحدر المحتجزون من أكثر من خمسين دولةً، ترفض معظمها تحمّل مسؤوليّة عودتهم، وتقويم المخاطر، ومحاكمتهم إذا ثبتت إدانتهم، وإمكانيّة إعادة تأهيلهم وإدماجهم في مجتمعاتهم الأصليّة. وقد تذرّعت بعض هذه الدول بأنّ عدم الاختصاص أو عدم القدرة على مقاضاتهم على أفعالهم يحول دون عودتهم، مقترحةّ بأنّ على العراق وسوريا معاقبتهم نظرًا لوقوع الجرائم في هاتين الدولتين. تعدّ هذه الحجّة معيبةً أساسًا لأنّ الجرائم الّتي ارتكبها العديد من هؤلاء المقاتلين الأجانب تصنّف جرائم ضدّ الإنسانيّة. وفضلًا عن ذلك، فإنّ العديد من الأعمال المرتكَبة من هؤلاء المشتبه بهم من أعمال قتلٍ، واغتصابٍ، وتقديم الدعم لمنظّمةٍ إرهابيّةٍ، هي جرائم في بلدهم الأمّ. ورغم غياب القوانين المتعلّقةٍ بالدعم الماديّ للمجموعات الإرهابيّة لدى بعض الدول (على نحو ما عليه الحال في الولايات المتّحدة)، فإنّ العديد منها لديها قوانين كهذه. كما تبرز مخاوف مشروعةٌ حول فعاليّة الأدلّة في ساحة المعركة، على الرغم من استمرار يونيتاد (آليّة التحقيق التابعة للأمم المتحدة المعنيّة بتعزيز المساءلة عن الجرائم التي يرتكبها تنظيم داعش) بتوثيق الجرائم الّتي تحصل في العراق، ولكن يبقى من الضروريّ توسيع نطاق عملها ليشمل سوريا.
أمّا بالنسبة للبلدان الأخرى الّتي تجنّبت باستمرارٍ تحمّل مسؤوليّة مصير مواطنيها، فتؤكّد حكوماتها على أنّها غير ملزمةٍ أن تعدّ من سعى عمدًا إلى تنظيم داعش من مواطنيها. وبما أنّ العديد من هؤلاء المقاتلين الأجانب تخلّوا عن جنسياتهم، وأحرقوا جوازات سفرهم، وتعهّدوا بالولاء لـ «دولتهم» الجديدة المختارة، فقد فقدوا بذلك الجنسية في بلدانهم الأصليّة، على ما تزعمه بعض هذه الدول. ولا شكّ أنّ هؤلاء الإرهابيّين والمشتبه به ربّما لا يستحقّون الحدّ الأدنى من التعاطف. ومع ذلك، فإنّ حرمان الفرد من الجنسيّة، حتى في حال المحاسبة على ارتكاب جرائم خطيرة، لا بتّفق مع تعريف المواطنة في مجتمعٍ ديمقراطيٍّ أو ليبراليٍّ بما أنّ المواطنة هي عقدٌ بين طرفين لا يمكن إبطاله نتيجة تصرّفات طرفٍ منهما. فحقوق العدالة الشفّافة لا يتمتّع بها الفرد بحدّ ذاته، بل الفرد الجماعي. وبناءً عليه، فإنّ هذا التمييز هامٌّ بين الحقوق والامتيازات وعلى الدولة تحمّل المسؤوليّة حتّى لو تخلّى المواطن عن جنسيّته.
وقد أعلنت قوّات سوريا الديمقراطية عن نيّتها إجراء ما تأمل أن يكون محاكماتٍ تلتزم بمعايير الأدلّة المتعلّقة بالإجراءات القانونيّة الواجبة المعترف بها دوليًا، كما تعتقد بأنّها ستجبر الحكومات، من خلال التصريحات العلنيّة، على التّحرك لإعادة مواطنيها إلى أوطانهم. ولن تختفي هذه المشكلة من تلقاء نفسها بل لعلّها تزداد سوءًا. فلا تستطيع قوّات سوريا الديمقراطيّة احتجاز هؤلاء المقاتلين إلى أجلٍ غير مسمًّى، لأنّها تفتقر إلى الموارد والقدرات اللازمة للتصدّي لهذا التهديد على نحوٍ ملائمٍ. علاوةً على ذلك، تحتجز قوّات سوريا الديمقراطيّة ٤٠٠٠ فردٍ من أطفال مقاتلي داعش ونسائهم وعوائلهم في مخيّماتٍ بائسةٍ مثل مخيّم الهول. ولربّما قام فنر كيت، مساعد الوزير في وزارة الشؤون الخارجيّة الكرديّة السوريّة، بتلخيص الوضع بأكثر طريقةٍ مؤثّرةٍ، ذاكرًا بأنّ هذه أزمةٌ دوليّةٌ ويجب اجتراح حلٍّ دوليٍّ. ولا شكّ أنّ ذلك لا يعني مطلقًا أن نكون سذّجًا ولا نرى المصاعب والتحدّيات. ولكن مهما كانت تلك المصاعب فمن المهمّ أن تتحمّل الدول مسؤوليّة مواطنيها وأن تتّخذ إجراءاتٍ فوريّةً بعيدًا عن محاولتها التخلّص منهم، لأنّها بذلك تلجأ إلى محاولةٍ قصيرة النظر تقايض بها وهم الأمن قصير الأمد بواقع الخطر الكبير المحدق في المستقبل.