أوّل الكلام آخرُه:
- لعلّ من أهمّ خطوات الردّ الإيرانيّ على الضربة الجويّة الأمريكيّة الّتي أودت بحياة قائد فيلق القدس الفريق قاسم سليماني هي السعي لإخراج 6000 جنديٍّ أمريكيٍّ إخراجًا نهائيًّا من العراق.
- وقد شرعت إيران بالفعل بتوظيف نفوذها العسكريّ والسياسيّ من أجل إخراج القوّات الأمريكيّة.
- إنّ الخروج الأمريكيّ من العراق يعني إطلاق يد إيران للسيطرة التامّة على مواقع السلطة في العراق، وهذا بدوره قد يفتح المجال لإعادة إحياء داعش لمواجهة النفوذ الإيرانيّ.
- يحاول قادةٌ عراقيّون بارزون معالجة الضرر الّذي أصاب علاقة بلادهم بالولايات المتّحدة الأمريكيّة وذلك من خلال السعي في الحدّ الأدنى للإبقاء على بعض برامج التدريب الأمريكيّة المخصّصة لتدريب القوّات العراقيّة في مواجهة داعش.
توعّدت إيران بردٍّ حازمٍ على القصف الصاروخيّ الأمريكيّ الّذي أدّى إلى مقتل أحد كبار مسؤولي الحرس الثوريّ الإيرانيّ ورجل إيران الأوّل فيما يخصّ نفوذها العسكريّ في المنطقة، الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس وذلك في الثالث من كانون الثاني/يناير الجاري. ولا تزال كيفيّة الردّ الإيرانيّ وزمانه غير واضحين حتّى الآن. إلّا أنّه من المؤكّد أن يكون ردّ المحور الموالي لإيران مبنيًّا على رغبته في طرد القوّات الأمريكيّة من العراق بشكلٍ كاملٍ. وسوّغت إدارة ترامب هذه العمليّة الّتي استهدفت موكب سليماني الخارج من مطار بغداد انطلاقًا من أنّ قائد فيلق القدس كان يحثّ حلفاء إيران وأذرعتها على القيام بهجماتٍ ضدّ الديبلوماسيّين والعسكريّين الأمريكيّين في العراق. ويعسكر اليوم 6000 جنديٍّ أمريكيٍّ في العراق بموجب اتّفاقٍ ثنائيٍّ بين البلدين جُدّد في عام 2014 وذلك بهدف مساعدة القوّات العراقيّة على مكافحة الأعداد الضخمة من جهاديّي داعش. وكانت مجموعاتٌ مدعومةٌ من إيران قد شنّت هجماتٍ صاروخيّةً في شهر كانون الأوّل/ديسمبر 2019 على قواعد تضمّ عسكريّين أمريكيّين وبعض القوّات العراقيّة في العراق، فردّت الولايات المتّحدة بضرباتٍ استهدفت كتائب حزب الله في العراق (الّتي قتل مؤسّسها أيضًا في الهجوم الأخير على موكب سليماني)، فأُغرق محيط السفارة الأمريكيّة بالمتظاهرين المحتجّين.
ومنذ الإطاحة الأمريكيّة بنظام صدّام حسين عام 2003، سعى العراق إلى المحافظة على التوازن في علاقته مع إيران والولايات المتّحدة الأمريكيّة. وتجدر الإشارة إلى أنّ العراق وإيران كانا على علاقةٍ سيّئةٍ منذ انتصار الثورة الإسلاميّة عام 1979 إلّا أنّ البلدين توصّلا عام 2014 إلى أرضيّةٍ مشتركةٍ لهزيمة داعش عدوّهما المشترك. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أنّه في سبيل هزيمة داعش في العراق دعمت الولايات المتّحدة الأمريكيّة على نحوٍ غير مباشرٍ جماعاتٍ مسلّحةً شيعيّةً مرتبطةً بإيران. إلّا أنّه ومع تراجع قوّة داعش في العراق بحلول عام 2017 غيّرت إدارة ترامب مسارها متوجّهةً نحو سياسة الضغط القصوى على إيران في العام 2018، وهذا ما جعل العراق ميدانًا للتنافس حول النفوذ بين أميركا وإيران، ولا سيّما أنّ إيران تستخدم الميليشيات الموالية لها وحلفاءها السياسيّين في بغداد من أجل الضغط في وجه حملة واشنطن المعادية لها.
وفي الأيّام القليلة الّتي تلت مقتل سليماني، بدا على المشهد السياسيّ أنّ القوى السياسيّة الداعمة للموقف الإيرانيّ لها الغلبة، مدعومةً (أو مهدّدةً إذا لزم الأمر) من الميليشيات الموالية لإيران. وفي الخامس من كانون الثاني/ يناير، صادق البرلمان العراقيّ على قرارٍ يدعو الحكومة العراقيّة إلى المطالبة بانسحاب القوّات الأمريكيّة من العراق. وندّد رئيس وزراء حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي القريب على حدٍّ سواءٍ من المسؤولين الأمريكيّين والإيرانيّين والّذي قدّم استقالته بعد حركة الاحتجاجات الّتي حصلت في تشرين الثاني/ نوفمبر، بالضربة الأمريكيّة واصفًا إيّاها بالانتهاك للسيادة العراقيّة وقائلًا إنّه يدعم قرار البرلمان الّذي يقضي بطرد القوّات الأمريكيّة من البلاد. وقبيل تصويت البرلمان العراقيّ على هذا القرار، أعلن الائتلاف الّذي تقوده الولايات المتّحدة الأمريكيّة بوجه داعش والّذي يُشرف على عمليّة «العزم الصلب» بأنّه سيرجئ عمليّاته ضدّ داعش في العراق وسيركّز على حماية قوّات الائتلاف من القصف الصاروخيّ المستمرّ الّذي تشنّه الميليشيات الشيعيّة المدعومة من إيران. وأنذرت كتائب حزب الله القوى الأمنيّة العراقيّة طالبةً منهم الابتعاد عن القواعد العسكريّة حيث القوّات الأمريكيّة وهو مؤشّرٌ على احتمال حدوث هجماتٍ مستقبليّةٍ قاسيةٍ ضدّ القوّات الأمريكيّة. ورغم اصطفاف رئيس الوزراء عادل عبد المهدي إلى جانب الأطراف الموالية لإيران منذ مقتل سليماني إلّا أنّه اقترح خطّةً تقضي بوضع حدودٍ للعمليّات الأمريكيّة في العراق بدلًا من طرد القوّات الأمريكيّة بشكلٍ كاملٍ من البلاد. فهو يسعى مع قياديّين عراقيّين آخرين إلى الإبقاء – في الحدّ الأدنى – على البرنامج التدريبيّ الأمريكيّ المخصّص لوحدة مكافحة الإرهاب في الجيش العراقي، وهي وحدةٌ من قوّات النخبة أثبتت فعاليّتها في محاربة داعش. وحتّى في حال نجاحه في المحافظة على هذا الحدّ الأدنى من العلاقات العسكريّة مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة فمن الواضح أنّ العمليّات العسكريّة الأمريكيّة ضدّ داعش سوف تتراجع بشكلٍ كبيرٍ، الأمر الّذي ينذر بعودة التهديد الداعشيّ للحكومة والشعب العراقيّين.
ولا شكّ أنّ عودة تهديد داعش لا يصبّ في مصلحة طهران، إلّا أنّ خروجًا أمريكيًّا من العراق سوف يجعل إيران تسيطر على ممرٍّ بريٍّ آمنٍ يصلها بشواطئ البحر الأبيض المتوسّط، ولا شكّ أنّ مثل هذا الجسر يعدّ مطلبًا إستراتيجيًّا مهمًّا لإيران. كما أنّ عراقًا مواليًا لإيران سيسمح لطهران بالنفاذ إلى عددٍ لا يحصى من المنشآت والمواقع الّتي تسمح للميليشيات الشيعيّة الموالية لها في العراق أن تساعد إيران في بسط نفوذها واستعراض قوّتها في شرقيّ سوريا والمملكة العربيّة السعوديّة والدول الخليجيّة الأخرى. وقد زوّدت إيران حلفاءها العراقيّين بصواريخ باليستيّةٍ قصيرة المدى تماشيًا مع هذا الهدف. وتجدر الإشارة إلى أنّ واحدًا على الأقلّ من الاعتداءات الّتي شُنّت على خطوط نقل النفط السعوديّة في منتصف عام 2019 كان مصدرها العراق. ولذلك فقد يخاطر القادة الإيرانيّون ويتقبّلون عودة تهديد داعش إذا كان في تلك المخاطرة ما يسمح لهم بتحقيق أهدافٍ كبرى مثل الثأر لمقتل سليماني وإظهار قرار إدارة ترامب قتلَه بصورة الخطأ الإستراتيجيّ العظيم.