أوّل الكلام آخره:
- في 19 تشرين الثاني (نوفمبر)، بُرّئ كايل ريتنهاوس من جميع التهم الموجهة إليه.
- احتفل المتطرفون اليمينيون بحكم البراءة، بما في ذلك أعضاء الميليشيات والعنصريون وأصحاب نظرية التسارع، وذلك على بعض مواقع التواصل مثل جاب وتليغرام، واستخدموه لنشر دعايتهم واستقطاب أعضاء جدد وتجنيدهم.
- أثيرت في محاكمة ريتنهاوس أسئلة اجتماعية وقانونية لا شك أنها ستطرح مرة أخرى في المستقبل عند أي إطلاق للنار في الاحتجاجات والتجمعات أو في أعمال الشغب.
- ما من تهديد أجنبي على الولايات المتحدة يعادل في خطورته التدمير الداخلي المتعمد للذات والجهل المقصود لدى بعض المواطنين بطبيعة نظامها السياسي المعاصر.
من أكثر القضايا التي تصيب الأمن القومي للولايات المتحدة في الصميم، فضلا عن الانقسام الاجتماعي والسياسي المتفاقم، قضية الاستقطاب اللاذع الذي يسم السياسة الأمريكية الآن ويهدد قدرة الأمريكيين على النقاش المنطقي حول الضرورات الأمنية. على أن الحروب الكلامية تصاحبها في كثير من الأحيان تهديدات حقيقية، فهذه الحروب الكلامية تبدأ بالخطاب العنيف الذي يتبناه بعض المسؤولين المنتخبين ولا تنتهي بذلك التوق المرضي إلى حرب أهلية دائمة والذي أذكته بعض شبكات الإعلام الحزبية، والذي تضخم بشكل خاص منذ تمرد الكابيتول. وهذا الخطاب المثير للانقسام يجعل من الصعب للغاية بالنسبة للولايات المتحدة أن تتعامل بفعالية مع مجموعة من التهديدات الفعلية القائمة. وعلاوة على ذلك، تعمل قنوات التواصل الاجتماعي على تأجيج الانقسامات الاجتماعية وتضخيمها، فضلاً عن توفير نموذج مصغر خطير للتطرف، يمكنها من الاستقطاب والحشد. محاكمة كايل ريتنهاوس التي اختتمت مؤخرًا هي أحدث أعراض هذا المرض الأمريكي، في ظل المطالبات القانونية بحق الدفاع عن النفس وسط القضايا الأكبر المتعلقة بحمل البنادق واستخدام العنف في مواجهة الدعوات العامة للعدالة العرقية وإصلاح أنظمة الشرطة.
في 19 تشرين الأول (نوفمبر)، وجدت هيئة محلفين في كينوشا بولاية ويسكونسن أن كايل ريتنهاوس غير مذنب في أي من التهم الخمس التي وجّهت إليه: تهمة القتل العمد من الدرجة الأولى مع استخدام السلاح؛ وتهمة القتل الطائش من الدرجة الأولى مع استخدام السلاح؛ وتهمة محاولة القتل العمد من الدرجة الأولى مع استخدام السلاح؛ وتهمتين بالاستهتار من الدرجة الأولى بما يعرض السلامة العامة للخطر مع استخدام سلاح قاتل. ودافع الفريق القانوني لريتنهاوس عنه على قاعدة أنه كان في حالة دفاع عن نفسه، ووافقت هيئة المحلفين على هذا الدفاع. ولعل الحكم لم يكن مفاجئا إذا نظرنا إليه من وجهة نظر قانونية صرفة مجردة من أي سياق اجتماعي وتاريخي، فقوانين الولاية بشكل عام تقدّم حقوق الدفاع عن النفس وحمل السلاح على غيرها. ولكن من وجهة نظر مجتمعية، فقد أظهرت القضية مرة أخرى كيف أدى تدفق الأسلحة، وبشكل أكثر تحديدًا حمل البنادق شبه الآلية والمسدسات، في الأماكن العامة عند التجمعات العامة إلى خلق حالة تهديد دائمة ومتفاقمة. وقد احتفل المتطرفون اليمينيون بحكم البراءة، بما في ذلك أعضاء الميليشيات والعنصريون وأصحاب نظرية التسارع، وذلك على بعض مواقع التواصل مثل جاب وتليغرام، واستخدموه لنشر دعايتهم واستقطاب أعضاء جدد وتجنيدهم.
ومنعا لتكرار مثل هذا الحدث يجب معالجة الأسئلة الاجتماعية القانونية الأوسع التي أثيرت في محاكمة ريتنهاوس. هل من المعقول للمرء الادعاء بالدفاع عن النفس إذا كان هو من خلق التهديد في المقام الأول؟ لقد عبر ريتنهاوس حدود الولاية لإحضار السلاح إلى ساحة لأعمال الشغب، فهل يحق له بعد ذلك أن يدعي أنه خاف من أن يأخذ شخص ما بندقيته شبه الآلية، التي جعلته يظهر بمظهر تهديدي، لتسويغ إطلاق النار؟ علاوة على ذلك، كشفت هذه المحاكمة مرة أخرى تباين المعاملة في النظام القانوني التي يعامل بها الأمريكيون على اختلاف أعراقهم. وبشكل مأساوي، عزز الحكم أيضًا زخم حضور العنصريين البيض المستفزّ في الاحتجاجات المطالبة بالعدالة العرقية، ومنحهم مسوّغا قانونيًا لممارسة العنف. وفي حين أن الحكم قد يكون مستندا إلى الحقوق المكفولة في التعديل الدستوري الثاني، إلا أنه قد يؤدي إلى تفاقم مثل هذا العنف والترهيب على نحو يمزق نسيج المجتمع الأمريكي ويهدد حقوق الأفراد في حرية التعبير والتجمع.
إن رفع السلاح علنا بوصفه تعبيرا سياسيا واجتماعيا هو ظاهرة أمريكية فريدة بين الديمقراطيات الغربية. وكذلك حال الحملات السياسية الدائمة التي تُبنى على غضب أبدي مصطنع، وعلى مبالغ ضخمة من المال. والجمع بين هذين، بين البنادق والخطاب الاجتماعي السياسي العنيف، هو لعنة تصيب استقرار الديمقراطية وسلامتها. ولعله ما من تهديد أجنبي على الولايات المتحدة يعادل في خطورته التدمير الداخلي المتعمد للذات والجهل المقصود لدى بعض المواطنين بطبيعة نظامها السياسي المعاصر. وعلاوة على ذلك، يستغل أعداء الولايات المتحدة الانقسامات الاجتماعية المحلية بما يوفر معينا لا نهاية له لتضخيم نظريات المؤامرات ونشر المعلومات المضللة، التي توجه للجمهور المتحزب. وفوق ذلك كله، عدد لا يحصى من الأسلحة التي قد تحول أي خلاف إلى كارثة. وحاليًا كل الزخم في الخطاب الاجتماعي والسياسي الأمريكي هو لمزيد من الغضب السياسي والعنف. ونظرًا لأنه يجب الآن تصوير كل قضية وحدث في الخطاب الأمريكي على أنه معركة يُنظر إليها من خلال عدسة شديدة التحزّب، فلا يظهر في الأفق احتمال انحسار حوادث العنف في الشوارع الأمريكية أثناء الاحتجاجات والتجمعات. ولقد أصبحت أمريكا اليوم، بحكم تكوينها ومسارها، في حالة دائمة من الدفاع المسلح عن النفس، وهذا الجنون، اليوم وعلى المدى البعيد، يشكل أحد أكبر التهديدات لأمنها منذ أجيال. ونظرًا لانتشار البنادق في كل مكان في أمريكا، فإن هذه المحاكمة تشكل سابقة خطيرة، حيث إنها تسوّغ الحضور المسلح في الاحتجاجات أو ساحات أعمال الشغب، وتسمح باستخدام العنف من دون عواقب رادعة، وهذا قد يشجع اليمين المتطرف على التمادي في مثل هذا الاستخدام للأسلحة في الأماكن العامة.