أوّل الكلام آخره:
- يتصاعد الزخم في واشنطن للابتعاد تدريجيا عن مكافحة الإرهاب نحو منافسة القوى العظمى.
- بدلا من النظر إلى مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى على أنهما نموذجان متنافسان، يجب أخذهما بمثابة قضيتين متكاملتين.
- لا تزال الولايات المتحدة تواجه تهديدات كبيرة من الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وسيكون من الأهمية بمكان ألا تتجاهل الدروس المستفادة من العقدين الماضيين.
- لا ينبغي للاعتراف المتزايد بالحاجة إلى التصدي للتهديدات الجيوسياسية التي تشكلها روسيا والصين أن يمحو الاهتمام بمكافحة الإرهاب.
أصدرت إدارة بايدن مؤخرا «توجيهاتها الاستراتيجية المؤقتة للأمن القومي». ويظهر من الاستراتيجية الجديدة تراجع أولوية مكافحة الإرهاب لصالح التركيز على الأبعاد الجيوسياسية ومنافسة القوى العظمى، وهذا قد يثير المخاوف من غياب التوازن في السياسة وتجاهل نجاحات مكافحة الإرهاب خلال العقدين الماضيين. وبحسب ما ذكر في الوثيقة على صفحتها التاسعة عشر «يجب علينا تكييف نهجنا لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك مواءمة مواردنا مع التهديدات الصاعدة». وتجسد هذه العبارة الروح الحالية المهيمنة في واشنطن، فقد قلّ الاهتمام بمكافحة الإرهاب، وحلّ التعب بعد ما يقارب عشرين عاما من القتال في ما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب. وببساطة، من الواضح أن التهديدات الأكثر إلحاحا التي تشكلها الدول المتنازعة والمنافسة الجيوسياسية، على خلفية وباء عالمي وتحديات محلية عاجلة تتطلب استثمارات ضخمة، قد قللت من التركيز على مكافحة الإرهاب، فانقلبت كفة الميزان نحو الاتجاه المعاكس، فجرى الابتعاد عن الاهتمام بالجهات الفاعلة غير الحكومية وتركيزه على الدول القومية؛ وبات التهديد يتركز في أبعاده الجيوسياسية في دول مثل إيران وكوريا الشمالية، وفي أبعاده التنافسية في دول مثل روسيا والصين.
ومع ذلك، فنحن لسنا بالضرورة أمام خيارين متعارضين لا يمكن الجمع بينهما. إذ يجب أن تكون الولايات المتحدة قادرة على مكافحة الإرهاب للتصدي للتهديدات القادمة من الجهات الفاعلة غير الحكومية في الوقت الذي تتنافس فيه مع خصومها الرئيسيين من الدول القومية. وعلاوة على ذلك، فإن التهديدات التي يشكلها الإرهابيون والمتطرفون ليست بعيدة عن التهديدات التي تشكلها الدول التي قد تتلاعب بالحلفاء والوكلاء الإقليميين، وهذا شائع منذ القدم في تاريخ الحروب. وبالتالي، فإن هذين الخيارين هما خياران متكاملان كما أبرز ماثيو ليفيت ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في تقرير جديد بعنوان «إعادة التفكير في الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب: نحو خطة مستدامة بعد عقدين من أحداث 11/9». ووفقا لذلك، فإن النظر إلى مكافحة الإرهاب ومنافسة القوة العظمى في آن معا يمكّن الولايات المتحدة من صوغ استراتيجية شاملة تستخدم فيها أدوات القوة الصلبة وأدوات القوة الناعمة معًا.
وعلى هذا، فإذا اتّفق المرء مع التقويم القائل إن الصين هي الشاغل الاستراتيجي الأكثر إلحاحا للولايات المتحدة في المستقبل المنظور، فإن عليه بلا شك أن يقرّ بضرورة تخصيص المزيد من الموارد للتعامل مع هذا التحدي، ولكن ذلك لا يعني أن عليه أن يتخلى عن مكافحة الإرهاب بوصفها واحدة من أهم المهام الدائمة للولايات المتحدة. ولا ينبغي أن ننسى أن الدول المنافسة نفسها توظّف مجموعة واسعة من المقاربات الاستراتيجية، بما في ذلك تعيين مواطنيها في المناصب العليا داخل المنظمات الدولية، أو الاستثمار في مشاريع التنمية الطويلة الأجل فضلا عن تعزيز العلاقات مع الحلفاء الاستراتيجيين.
وعلى مدى العقدين الماضيين، وظّفت الولايات المتحدة عديدها وطاقتها وكثيرا من مواردها المالية لتطوير بنى تحتية شاملة لمكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم. ويشمل ذلك الابتكارات التكتيكية والعملانية، وبناء القدرات العالية في مجال الاستخبارات والرصد والاستطلاع، وشراكات التعاون الأمني الدائم مع دول من تمتد من دول الساحل الإفريقي إلى جنوب شرق آسيا. كما قادت الولايات المتحدة عددا من الجهود في المجال الدولي، بما في ذلك تطوير إطار قانوني دولي غير مسبوق وشامل من خلال مجلس الأمن الدولي، كما أنها قادت إنشاء المنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب، الذي يجمع 29 دولة والاتحاد الأوروبي لدعم الدول ببناء القدرات المدنية. ويبرز خطر كبير في السماح لهذه المنجزات جميعا بالتآكل. نعم، تتفق معظم الآراء على أن إعادة النظر في مخصصات مكافحة الإرهاب في الميزانية (بل وفي مخصصات أي بعثة أمنية وطنية) تعد أمرا مسوغا وضروريا. وهذا ما أشارت إليه وثيقة استراتيجية إدارة بايدن عندما تحدثت عن مواءمة الموارد مع التهديد، وهو هدف حكيم بامتياز. ولكن يكمن القلق في أن يكون تقويم التهديد نفسه خاطئا، مما يؤدي إلى تخفيض الموارد المخصصة، وجعل الولايات المتحدة عرضة للأخطار التي تشكلها مجموعة من المنظمات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية. وبطبيعة الحال، إن الهجمات الإرهابية هي هجمات سرية، وقد أعطت هجمات 11 أيلول / سبتمبر 2001 درسا للولايات المتحدة بضرورة الاستعداد الكامل للرد على أي مفاجأة استراتيجية.
ومما لا شك فيه أن قوة التنظيم المركزي للقاعدة قد تراجعت، لكن فروعها الإقليمية في جميع أنحاء العالم لا تزال تشكل تهديدا خطيرا. وقد خططت العديد من الفروع التابعة لها لعمليات خارجية متطورة على مدى السنوات القليلة الماضية، بما في ذلك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي يتخذ من اليمن مقرا له وحركة الشباب في الصومال. كما نمت قوة الجماعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة في جميع أنحاء غرب إفريقيا. ويراقب إرهابيو القاعدة في جنوب آسيا الأحداث في أفغانستان عن كثب. وبالمثل، ففي حين دُمرت الخلافة المزعومة لداعش، فإن المنظمة بعيدة عن الهزيمة. ولا تزال أيديولوجية تنظيم داعش وخلاياه تشكل تهديدا كبيرا، وكذلك فروعه الإقليمية. ويبحث كل من تنظيم القاعدة وداعش عن فرص لتنظيم عودة ناجحة، وهما يستعدان لملء الفراغ الأمني الذي يمكن أن ينتج عن نقل القوات العسكرية الغربية من قواعد العمليات الأمامية إلى المقرات الإقليمية. إن مخيمات النزوح التي تعاني من ضعف البنية التحتية أو ضعف المساءلة، مثل مخيم الهول، لا تسهم إلا في تفاقم هذه الدينامية ، فهي توسع فرص التطرف أو التجنيد أو الهروب المحتمل. ومن المعروف منذ فترة طويلة أن النزاعات المطولة، وزيادة الاضطراب الأمني، والخسارة والقلق الاجتماعيين، وضعف السيطرة الحكومية تخلق بيئات مضيافة للجماعات الإرهابية، ويمكن أن تمكّن ظروف ما بعد الوباء والصراعات المختلفة هذه المجموعات من إعادة تجميع صفوفها أو إحداث انطلاقات جديدة.
وعلاوة على ذلك، ومع تزايد التهديد الذي تشكله جماعات العنصريين البيض المتطرفة العنيفة العابرة للحدود، سيكون من الأهمية بمكان الحفاظ على الشراكات القائمة في مجال مكافحة الإرهاب وترتيبات تبادل المعلومات الاستخباراتية. وهذا يشمل بالضرورة توظيف الدروس المستفادة من الكفاح ضد الجماعات الجهادية في مواجهة النازيين الجدد وغيرهم من المتطرفين اليمينيين. وقد صيغت عدة أطر قانونية وسياسية دولية على أنها «موجهة لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره». وأثبتت دول مثل المملكة المتحدة أن تدابير مكافحة الإرهاب قد تكون تدابير عامة تتصدى لطائفة واسعة من التهديدات ذات الدوافع الأيديولوجية المتناقضة. ويكافح شركاء الولايات المتحدة وحلفاؤها من النمسا إلى أستراليا التحدي المتزايد المتمثل في جماعات العنصريين البيض المتطرفة العنيفة العابرة للحدود، ولذلك يتعين على الدول الغربية الانخراط في تعاون وثيق لمعالجة وباء التطرف اليميني كما فعلت لمواجهة التهديد الذي تشكله الجماعات السلفية الجهادية.
إن الاعتراف بالحاجة الملحة للتصدي للتهديد الذي يشكله صعود الصين وعدوانية روسيا وهجوم إيران وحضور تركيا القوي لا يلغي الحاجة إلى عمليات مكافحة الإرهاب وإقامة الشراكات لتبادل المعلومات والبيانات الاستخباراتية. والواقع أن اثنين من البلدان المذكورة أعلاه يقعان على خط التماس بين مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى. ويعد الانفصاليون الروس في أوكرانيا والحوثيون في اليمن مثالين نموذجيين على التلاقي بين جهود مكافحة الإرهاب ومنافسة القوى العظمى. فكلاهما عناصر فاعلة عنيفة غير حكومية مدربة تدريبا جيدا، تدعمها دول قومية قوية، ومجهزة بأسلحة عالية التقنية، بما في ذلك مجموعة من الصواريخ المتطورة. وكما أثبتت الصراعات الأخيرة في ليبيا وإقليم ناغورنو كاراباخ، فإن الاعتماد على الجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية قد يكون فعالا في قلب توازن القوى. ولعل هذا هو الاتجاه الذي من المحتمل أن نرى المزيد منه في المستقبل. وتتمتع كل من روسيا وتركيا وإيران بدرجات متفاوتة من النجاح في استخدام الشركات العسكرية الخاصة والمقاتلين الأجانب والميليشيات الطائفية. وأصبح العمل من خلال هذه الجهات الفاعلة الوسيلة المفضلة في كثير من الحالات، لما يخلقه ذلك من التشويش والغموض مع تجنب التصعيد المباشر. وفي حين أن بيروقراطية الأمن القومي الأمريكية تتجادل حول تعريف «عمليات المنطقة الرمادية» و«الحرب المختلطة»، فإن موسكو وأنقرة وطهران تقوم بتدريب قوات غير نظامية وتجهيزها ونشرها للانخراط في حروب غير متكافئة، غير مبالية بالتعريفات والعقائد القتالية، ولكنها تركز على تأمين أهداف سياستها الخارجية بأي وسيلة ضرورية. ولذلك كله فإن مكافحة الإرهاب جزء لا يتجزأ من معالجة الأولويات الجيوسياسية وأولويات منافسة القوى العظمى.
وبمعزل عن الأصوات المتنامية في دوائر صناعة القرار في واشنطن العاصمة التي تؤكد أن مكافحة الإرهاب باتت في خبر كان، فإن على إدارة بايدن أن تقاوم النزعة نحو التغيير الحاد في السياسات لئلا ينقلب تصحيح السياسات إلى أخطاء فادحة. وبعد عقدين من وتيرة العمليات التي لا هوادة فيها وملاحقة الإرهابيين في المناطق النائية من العالم، فإن الدخول في مرحلة من الفتور نتيجة حتمية. ولا ينبغي أن تكون مكافحة الإرهاب بديلا عن الاستراتيجية الكبرى، ولكن لا ينبغي في الوقت نفسه رفضها بصفتها من مخلفات السنوات الماضية. فهي لاتزال جزءا لا يتجزأ من النهج الشامل للأمن القوم الأمريكي ولا يمكن فصلها تماما عن منافسة القوى العظمى. إن الإرهاب تكتيك متبع، ولن تزول الجماعات الإرهابية بالتوقف عن مكافحتها. وفضلا عن ذلك، يمكن للدول التحكم بالجماعات الإرهابية من أجل تحقيق أهدافها الخاصة في منافسة القوى العظمى. وقد نسحب أيدينا من قضية الإرهاب، ولكن هذا لا يعني أن الإرهاب سيدعنا وشأننا.