أوّل الكلام آخره:
- يتعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لضغوط شديدة بفعل انهيار العملة الوطنية وتراجع الشعبية المحلية والمنافسة الإقليمية.
- يمكن القول إن سياسات أردوغان المالية قد فاقمت الوضع الاقتصادي المحلي.
- قد يهزم أردوغانَ معارضوه في الانتخابات المقبلة، ولا سيما إذا تفاقمت المشاكل الاقتصادية في تركيا.
- مكّنت استراتيجية تركيا الخارجية من كسب بعض النزاعات الإقليمية لصالحها، وساهم في ذلك أيضًا تقدم تكنولوجياتها العسكرية.
يمسك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمقاليد السلطة في بلاده منذ ما يربو عن العقد من الزمان، بما في ذلك سبع سنوات قضاها رئيسًا لتركيا، على الرغم من محاولة الانقلاب العسكري في تموز (يوليو) 2016 والتي كادت أن تطيح به. وفي السنوات الأخيرة، كان المحللون يعتقدون أن أردوغان غير معرض للخطر سياسيًا – فدعمه السياسي الأساسي داخل حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي مضمون، وخصومه إمّا منقسمون على أنفسهم أو مقموعون، ووسائل الإعلام المعارضة إمّا خائفة وإمّا مغلقة. ولتعزيز سلطته بعد محاولة الانقلاب، استخدم أردوغان الاعتقالات الجماعية، ووظّف خطاب مكافحة الإرهاب لمحاكمة الأفراد، وطارد بشكل خاص أولئك المرتبطين بحركة الزعيم الديني فتح الله غولن، وضيّق الخناق على المجتمع المدني ووسائل الإعلام. ولكننا نجد أردوغان اليوم أكثر عرضة للخطر في انتخابات 2023، على الرغم من أن لديه من الوقت ما يكفي للتعافي سياسيًّا – ما لم ينجح خصومه في فرض انتخابات مبكرة. والعنوان الأساسي المرفوع في وجه أردوغان اليوم هو الاقتصاد، فقد شهدت البلاد سنوات من الاضطرابات الاقتصادية التي ارتفع فيها التضخم مع انخفاض الليرة إلى مستويات قياسية، فقد فقدت العملة أكثر من 40 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي في عام 2021 وحده – ممّا جعلها الأسوأ أداءً من بين جميع عملات الأسواق الناشئة.
على أن انهيار الليرة هو إلى حد كبير من فعل أردوغان نفسه: فقد ضغط مرارًا وتكرارًا على البنك المركزي المستقل اسميًا لخفض سعر الفائدة، على الرغم من تجاوز معدل التضخم 20 في المئة. ويعتقد أردوغان أن أسعار الفائدة المرتفعة تسبب ارتفاع معدل التضخم – وهو عكس التفكير الاقتصادي التقليدي تمامًا. وفي الأول من كانون الأول (ديسمبر)، استبدل أردوغان نور الدين النبطي بوزير المالية السابق، ليكون بذلك ثالث وزير للمالية خلال عام واحد، ومن غير المرجح أن يقاوم الوزير الجديد إصرار أردوغان على المزيد من خفض أسعار الفائدة. لقد شجعت المشاكل الاقتصادية في تركيا المعارضة السياسية المنقسمة على نفسها منذ فترة طويلة إلى تخفيف لهجة خطابها العلماني الذي لا يحظى بشعبية لدى الأتراك القرويين وكبار السن، ومحاولة التوحد سياسيًا وتحدي أردوغان بشكل مباشر. وفي أواخر تشرين الثاني (نوفمبر)، احتج المتظاهرون على السياسات الاقتصادية في إسطنبول، أكبر مدن تركيا، وفي العاصمة أنقرة، وفي 4 كانون الأول (ديسمبر) احتشد حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي داعيا لإجراء انتخابات مبكرة. إن تراجع شعبية أردوغان من جهة وتوحد المعارضة من جهة أخرى يعززان فرصة هزيمة أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وبمعزل عن ذلك، فقد حققت سياسات أردوغان الإقليمية بعض النجاحات الملحوظة، التي تحققت جزئيًا بسبب التكنولوجيا العسكرية التركية المطورة محليًا، مثل طائرة بيرقدار المسلحة بدون طيار. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، أتاحت إمدادات الطائرات بدون طيار لأذربيجان، الحليف الناطق باللغة التركية، هزيمة القوات الأرمنية واستعادة الأراضي التي كانت قد خسرتها لصالح الأرمن في منتصف التسعينيات. كما أثبتت الطائرات المسلحة بدون طيار التركية الصنع جدارتها في مساعدة الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة ومقرها طرابلس على رد محاولة 2019 التي قام بها زعيم الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر للسيطرة على ليبيا بالكامل. ولا تزال القوات التركية منخرطة في ليبيا تحسبا لانهيار وقف إطلاق النار المعمول به منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2020، وذلك عقب الانتخابات الوطنية المزمعة في 24 كانون الأول (ديسمبر). وقد ساعدت انتصارات حلفاء تركيا في هذه المعارك على الحفاظ على مصالح الأمن القومي لتركيا وإظهار قدراتها الإستراتيجية الكبيرة. كما عززت تركيا من أوراقها في مواجهة جارتها الكبيرة والقوية، روسيا، من خلال تزويد أوكرانيا بطائرات البيرقدار لاستخدامها ضد الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد.
أما على حدود تركيا المباشرة، فإن سجل السياسة الخارجية لأردوغان أكثر اختلاطًا. ففي سوريا، ابتعد أردوغان عن مواجهة روسيا مباشرة بشأن مصير نظام الرئيس بشار الأسد. وعلى الرغم من أن تركيا سعت في البداية إلى الإطاحة بالأسد في انتفاضة 2011، إلا أنها باتت اليوم تقبل بقاء الأسد في السلطة. أما تواصل دعمها اليوم للمتمردين في شمال سوريا فلا يبدو أنه يهدف اليوم إلى الإطاحة بالأسد بقدر ما يهدف إلى تجنب أزمة لاجئين أخرى. وهذا الدعم الذي تواصله تركيا يشمل الجماعات الإسلامية التي كانت متحالفة في السابق مع القاعدة، والتي باتت الآن محصورة إلى حد كبير في محافظة إدلب الشمالية الغربية. وفي سوريا أيضًا، تسبب أردوغان في توتر العلاقات مع الولايات المتحدة باستخدام طائرات مسيرة مسلحة لمهاجمة قوات سوريا الديمقراطية، وهي تحالف عسكري يقوده الأكراد وقد كان شريكًا رئيسيًا للولايات المتحدة في القتال ضد تنظيم داعش. وتؤكد تركيا، خلافًا للموقف الأمريكي، أن المكون الأساسي لقوات سوريا الديمقراطية، وهو وحدات حماية الشعب، هو فرع من حزب العمال الكردستاني في تركيا، والذي تصنفه كل من واشنطن وأنقرة جماعةً إرهابية. كما توترت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا بسبب شراء تركيا من روسيا لنظام الدفاع الصاروخي المتطور S-400، والذي فُرضت العقوبات على تركيا بسببه في كانون الأول (ديسمبر) 2020 بموجب قانون «مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات». وكان من بين العقوبات استبعاد تركيا من الشراكة العالمية لمقاتلات F-35. أما بالنسبة لأفغانستان، فقد شكرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تركيا على مساعدتها في تأمين كابول، ولكن هذا الدور طرح جانبا بعد استيلاء طالبان على البلاد في آب (أغسطس).
لقد ساعدت القوة العسكرية التركية والنجاحات الاستراتيجية في المنطقة أردوغان في جهوده الأخيرة لتقليل عزلة تركيا. وعلى مدى السنوات السبع الماضية، وضعت علاقات تركيا الوثيقة مع قطر وتحالفاتها في ليبيا وسوريا ومصر وأماكن أخرى، تركيا على المقلب الآخر في مواجهة بعض دول الخليج الرئيسية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وكانت إحدى مطالب المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة من قطر عند قطع العلاقات معها في عام 2017 إغلاق القواعد التركية المقامة على الأراضي القطرية. على أن الخلاف بين دول الخليج حُلّ إلى حد كبير في كانون الثاني (يناير) 2021 وأُسقط هذا الطلب. وتشير زيارة الزعيم الفعلي لدولة الإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد آل نهيان إلى أنقرة في تشرين الثاني (نوفمبر)، فضلًا عن احتمال عقد لقاء بين أردوغان وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في وقت لاحق من كانون الأول (ديسمبر)، إلى أن الدولتين الخليجيتين لم تعد لديهما الرغبة في بذل جهود غير مثمرة لتحدي نفوذ تركيا الاستراتيجي. كما تمكّن أردوغان أيضا من تحسين العلاقات مع مصر ومع إسرائيل التي كانت قبل وصول أردوغان إلى السلطة حليفًا استراتيجيًا لتركيا. ومع ذلك، يؤكد عدد كبير من المراقبين أنه على الرغم من حملته الطويلة من القمع السياسي المحلي، فإن الآفاق السياسية لأردوغان تعتمد إلى حد كبير على قدرته على وقف التدهور الاقتصادي، وأن المكاسب الإقليمية وحدها، بغض النظر عن مدى أهميتها، لن تنعش حياته السياسية.